آخر تحديث: 20 / 9 / 2025م - 11:54 م

هواة التصحيح

ياسر بوصالح

وصلني مؤخرًا كاريكاتير طريف تدور فكرته حول شخص كتب على لافتة قبر والده: ”رحلتَ يا أبتاه وتركتَ في قلبي حسره“، لكنه أخطأ في كتابة كلمة ”حسرة“، فدوّنها بالهاء بدلًا من التاء المربوطة المنونة.

فإذا بوالده يخرج فجأة من القبر، لا لسببٍ سوى لتصحيح الخطأ الإملائي! وهو لا يزال ملفوفًا في كفنه، يقول لابنه بحزم:

”يا بني، «حسرةً» تُكتب بالتاء المربوطة المنونة، وليس بالهاء المفتوحة! فيا حسرتي إن لم أحسن تربيتك!“

ثم يعود سريعًا إلى قبره، وكأن التصحيح اللغوي كان آخر وصاياه!

هذا المشهد يعكس ظاهرة التصحيح المفرط التي يمارسها البعض في حياتنا اليومية، حيث يصبح التدقيق اللغوي أو المعلوماتي أكثر أهمية من الفكرة نفسها.

وقد واجهت موقفًا مماثلًا مع أحد جيراني الأعزاء، رجل كبير في السن، مؤمن وطيب، لكنه مولع بتصحيح الأخطاء في كل شاردة وواردة. ذات مرة، كنت في المسجد حين ناداني أحدهم بقوله: ”يا عبد الله“، فاعترض جاري مباشرة وسألني:

”لماذا لا تصحح له المعلومة وتخبره أن اسمك ياسر؟“

فقلت له: ”ناداني عبد الله، وأنا عبد من عبيد الله، فما الإشكال؟“

فقال متعجبًا: ”لكن الناس ستعرفك بهذا الاسم!“

فأجبته: ”لا يهمني ذلك، حتى لو أسماني خالد أو راشد، في النهاية ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ [1] “.

رأيت على وجهه قسمات عدم الارتياح لإجابتي، وشعرت بوخز في الضمير، إذ إنه في سن والدي رحمه الله، فابتسمت وقلت له مازحًا:

”يا عم، يهمني فقط أن ينطق اسمي بدقة عندما يريد أن يكتب شيكًا باسمي، عندها لن أعطيه اسمي فقط، بل ورقم سجلي المدني إن اقتضى الأمر!“

هذا المشهد يتكرر بشكل دائم في مجالسنا، حيث نجد من يقاطع الحديث لا ليضيف فكرة، بل فقط ليصحح معلومة أو يصوّب لفظًا، مما يحرف مسار الحوار عن هدفه الأساسي.

وهنا يحق لنا أن نتساءل: متى نتعلم أن لكل شيء أصولًا وآدابًا وأعرافًا اجتماعية لا ينبغي تجاوزها؟ حتى على الصعيد الفقهي، لو رأيت بقعة دم أو ما شابه على شخص أثناء صلاته، لستَ ملزمًا بإخباره، وكأن باطن هذا الحكم الشرعي أنك غير ملزم بإحراج الغير!

لا أريد أن أدخل في نوايا هواة التصحيح أو هواة الكمال بالأحرى وأقول إنهم يقصدون بذلك عكس جرأتهم في نقد الآخرين أو ثقافتهم الواسعة في اصطياد الأخطاء، بل ربما نياتهم صادقة وتصحيحهم عفوي، لكن بتصرفاتهم هذه قد يصلحون شيئًا، لكنهم يفسدون أشياء أخرى.

ولنعم ما أنشد الإمام الشافعي رحمه الله في هذا السياق:

رامَ نَفَعًا فَضَرَّ مِن غَيرِ قَصدِ وَمِنَ البَرِّ ما يَكونُ عُقوقا

ختامًا، الفكرة الجوهرية هنا ليست رفض التصحيح، وإنما معرفة متى يكون التصحيح ضروريًا، ومتى يكون مجرد مقاطعة غير مبررة تفقد الحوار جوهره الحقيقي. وهنا يحق لي أن أسأل القارئ العزيز، وليجبني عبر خاصية التعليقات: هل سبق أن صححت أحدًا فندمت؟ أو العكس؟

[1]  سورة النجم ، الآية 23