بناء الإنسان.. العلم وحاكمية الدين
يُعدّ الإنسان محور الرسالات السماوية ومحلّ الاستخلاف في الأرض، كما قال تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30]، ومن ثم فإنّ بناء الإنسان عملية جوهرية، تشمل الجانب العقلي والروحي والأخلاقي، ولا تقتصر على النموّ المادي أو التقدّم العلمي وحده. فإذا كان العلم يمثل وسيلةً لفهم الكون وتطوير الحياة، فإنّ الدين هو المرجعية العليا التي تحدد غاية العلم وتضبط مساره الأخلاقي.
من هنا لابد من بيان العلاقة بين العلم وحاكمية الدين في بناء الإنسان، وإبراز ضرورة التكامل بينهما لتحقيق النمو المتوازن للفرد والمجتمع.
ينطلق الإسلام من أنّ الإنسان مخلوق مكرّم في ذاته، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70]، وهذا التكريم يقتضي تنمية جميع جوانبه التي يتكوّن منها؛ فالجسد بحاجة إلى الرعاية الصحية والقدرة البدنية، والعقل يحتاج إلى العلم والمعرفة والتفكير النقدي، وأمّا الروح فهي بحاجة إلى العبادة والقيم والإيمان. ومن ثم فإنّ البناء الإسلامي للإنسان يهدف إلى التوازن بين هذه الجوانب أو الأبعاد الثلاثة، فلا يطغى جانب على آخر.
العلم في الإسلام قيمة عليا، والدليل قول النبي ﷺ ”طلب العلم فريضة على كل مسلم“، فالعلم وسيلة لتحرير العقل من الجهل والخرافة، وتنمية قدرات الإنسان في عمارة الأرض، وتحقيق الرفاهية للمجتمع، وما إسهامات المسلمين في الطب والرياضيات والفلك والفيزياء والكيمياء إلّا مثالًا واضحًا على أنّ العلم لا يتعارض مع الدين، بل ينمو في ظله. فالخوارزمي أسس علم الجبر، وابن سينا وضع قواعد الطب، والرازي طوّر الصيدلة وجابر أسس علم الكيمياء وابن الهيثم وضع أسس الحركة، وكلهم كانوا ينطلقون من رؤية إيمانية بأنّ العلم جزء من عبادة الله عبر فهم خلقه.
للدين دور هام في بناء الإنسان حيث يمدّه بالجانب القيمي والأخلاقي، ويحدد الغاية من وجوده؛ عبادة الله وعمارة الأرض بالعدل، لقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، حاكمية الدين لا تعني تقييد البحث العلمي، بل وضع إطار أخلاقي له، على سبيل المثال، لا الحصر:
تحريم استخدام العلم في ما يضر الإنسان كإنتاج الأسلحة الفتّاكة أو التجارب غير الأخلاقية.
توجيه الاكتشافات لخدمة مقاصد الشريعة: كحفظ النفس، والعقل، والنسل.
ولا شكّ أنّ غياب الدين عن توجيه العلم قد يؤدي إلى انحرافات كارثية، مثل استخدام القنابل النووية أو تسخير التكنولوجيا للاستعمار والسيطرة، بدلًا من خدمة الإنسانية.
العلم يجيب عن سؤال: كيف نعيش؟، بينما الدين يجيب عن سؤال: لماذا نعيش؟.
ومن هنا فأنّ التكامل بين العلم والدين ضرورة لبناء إنسان متوازن، والنماذج التاريخية من الحضارة الإسلامية تؤكد ذلك؛ ومن أمثلة ذلك ”بيت الحكمة“ في بغداد الذي جمع العلماء من مختلف الأديان والثقافات تحت رعاية الدولة الإسلامية، مما يدلل على التقاء الدين بالعلم في مشروع حضاري واحد.
وفي عصرنا الحديث، يظهر هذا التكامل في مجالات مثل:
• الطب الأخلاقي الذي يوازن بين التطوّر العلمي ومبادئ الرحمة الإنسانية.
• الاقتصاد الإسلامي الذي يوظّف الأدوات الاقتصادية الحديثة ضمن إطار تحريم الربا والظلم.
• التكنولوجيا حين تُسخّر لخدمة الإنسان لا لاستعباده.
رؤية مستقبلية لبناء الإنسان المتكامل في العالم:
• إصلاح المناهج التعليمية بحيث تجمع بين المعارف العلمية والقيم الأخلاقية.
• تربية الأجيال على ثقافة أنّ العلم عبادة إذا كان في خدمة الخير.
• إبراز القدوات التي جمعت بين العلم والدين قديمًا وحديثًا.
• بناء إنسان متوازن قادر على مواجهة تحديات العصر دون التفريط بالقيم.
نستطيع القول بأنّ العلم وحده لا يكفي لبناء إنسان متكامل، لأنّه يقدّم الوسائل دون الغايات، كما أنّ الدين وحده لا يكفي إذا عُزل عن العلم، لأنّه قد يؤدي إلى الجمود، إنّما يكمن الحل في الجمع بينهما، فالعلم يثري العقل ويوفر الوسائل، فيما أنّ الدين يوجّه القلب ويحدد الغايات.
وبهذا التكامل يتحقق بناء الإنسان السليم الذي يحقق الاستخلاف في الأرض بالعدل والرحمة، ويجمع بين التقدّم العلمي والالتزام الأخلاقي.