آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 12:10 ص

ما دور الرضاعة الطبيعية في تقوية مناعة الطفل؟

مقدمة

الرضاعة الطبيعية ليست مجرد وسيلة لتغذية الطفل، بل هي نظام مناعي متكامل أودعه الله في الأم لتكون الحصن الأول لطفلها. إن الحليب البشري يحتوي على مزيج فريد من الخلايا الحية، الأجسام المضادة، البروتينات الخاصة، والهرمونات التي تعمل جميعها بتناغم لحماية الرضيع وتأسيس جهازه المناعي منذ اللحظات الأولى. هذا التوازن المعجز لا يمكن لأي تركيبة صناعية أن تحاكيه، مهما بلغت دقتها العلمية.

جهاز المناعة غير المكتمل عند الوليد:

عند الولادة، يكون جهاز المناعة لدى الطفل غير ناضج، وضعيف القدرة على مواجهة الجراثيم. فهو يفتقر إلى الخبرة في التعرّف على مسببات الأمراض والتصدي لها. هنا يظهر دور الرضاعة الطبيعية، إذ تنقل الأجسام المضادة التي كوّنها جهاز مناعة الأم عبر السنين. وأهمها الأجسام المضادة من نوع IgA, التي تغلف بطانة الجهاز الهضمي للطفل، فتمنع التصاق الميكروبات بجدران الأمعاء. وبذلك تقل احتمالية حدوث العدوى والإسهال، وتُبنى لدى الطفل قاعدة مناعية قوية تسانده في الشهور الأولى.

الكولستروم: اللقاح الطبيعي:

الكولستروم، أو الحليب الأول الذي تفرزه الأم بعد الولادة مباشرة، يُعد أشبه بلقاح طبيعي مركّز. يتميز بلونه المائل إلى الأصفر وكثافته العالية، وهو غني جدًا بالأجسام المضادة وخلايا الدم البيضاء. هذا الحليب الفريد يمنح الطفل حماية من الالتهابات البكتيرية والفيروسية في فترة حرجة من حياته، حيث يكون أكثر عرضة للأمراض. وقد أثبتت الدراسات أن الأطفال الذين يحصلون على الكولستروم أقل عرضة للإصابة بالالتهابات الرئوية والإسهال في الأشهر الأولى.

الوقاية من التهابات الطفولة:

من أكثر فوائد الرضاعة الطبيعية وضوحًا هي حمايتها من التهابات الأذن الوسطى، والتي تُعد من أكثر الأمراض شيوعًا في السنوات الأولى. فالحليب يحتوي على مركبات مناعية تمنع نمو البكتيريا في الأنف والبلعوم، وتقلل من انتقال العدوى إلى الأذن.

كما أن الرضاعة الطبيعية تقلل من الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي، مثل الالتهاب الرئوي والإنفلونزا. واللافت أن الأطفال الذين يرضعون طبيعيًا تظهر لديهم استجابة مناعية أقوى بعد التطعيمات، أي أن اللقاحات نفسها تصبح أكثر فعالية بفضل دعم الرضاعة لجهاز المناعة.

الحماية من الحساسية والربو:

الرضاعة الطبيعية تمنح الطفل فرصة ذهبية لتقليل احتمالية إصابته بالحساسية والربو. فهي تنقل له عوامل مضادة للالتهاب، وتزوده بميكروبيوم متوازن من البكتيريا النافعة التي تسكن أمعاءه. هذا الميكروبيوم يعمل على تهذيب جهازه المناعي، بحيث لا يبالغ في الاستجابة للمؤثرات الخارجية. النتيجة: انخفاض خطر الإصابة بالأمراض التحسسية المزمنة.

تقليل خطر الموت المفاجئ:

من أبرز الدراسات الحديثة ما أثبت أن الأطفال الذين رضعوا طبيعيًا كانوا أقل عرضة لمتلازمة موت الرضع المفاجئ «SIDS». ويُعتقد أن السبب هو الدور المزدوج للرضاعة في تقوية جهاز المناعة وتنظيم وظائف التنفس لدى الطفل.

الحماية من أمراض الجهاز الهضمي:

حليب الأم يحتوي على بروتينات خاصة مثل اللاكتوفيرين، الذي يمنع نمو البكتيريا الضارة عن طريق حرمانها من الحديد الذي تحتاجه للتكاثر. كما يحتوي على إنزيمات مثل الليزوزيم، القادرة على إذابة جدران البكتيريا وقتلها. بهذه الآليات الفريدة، يصبح الجهاز الهضمي للطفل محميًا من الالتهابات والتسممات.

الوقاية من أمراض المناعة الذاتية:

تشير الأبحاث إلى أن الأطفال الذين رضعوا طبيعيًا أقل عرضة للإصابة بأمراض المناعة الذاتية مثل السكري من النوع الأول والتصلب المتعدد. السبب أن الرضاعة تؤخر تعرّض جهاز المناعة لبروتينات غريبة قد تثيره بشكل خاطئ، فتقيه من تكوين أجسام مضادة ضد أنسجة الجسم نفسه.

الأثر النفسي والمناعي:

الرضاعة ليست مجرد غذاء جسدي، بل هي غذاء روحي ونفسي أيضًا. فهي تحفز إفراز هرمون الأوكسيتوسين لدى الأم، مما يعزز ارتباطها العاطفي بطفلها. هذا الشعور بالأمان ينعكس بدوره على جهاز المناعة لدى الطفل، إذ أن الأطفال الذين ينعمون بالدفء والطمأنينة يكونون أقل عرضة لاضطرابات المناعة المرتبطة بالتوتر والقلق.

الوقاية من السمنة والأمراض المزمنة:

من الفوائد طويلة المدى أن الرضاعة الطبيعية تقلل من احتمالية إصابة الطفل بالسمنة واضطرابات التمثيل الغذائي. فهي تعلّم الطفل مبكرًا الاستجابة لإشارات الشبع، بعكس الرضاعة الصناعية التي قد تُجبر الطفل على شرب كميات أكبر مما يحتاج. هذا التوازن المبكر يحمي الطفل لاحقًا من أمراض مزمنة تضعف جهازه المناعي.

البعد الإسلامي:

من منظور إسلامي، الرضاعة الطبيعية ليست خيارًا بل حق للطفل. قال الله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة: 233]. هذه التوصية الشرعية تؤكد أهمية العامين الأولين باعتبارهما الفترة الذهبية لبناء جهاز المناعة. وقد شدد أهل البيت على اختيار المرضعات من ذوات الصحة الطيبة، لما للبن الأم من تأثير مباشر في صحة ومناعة الطفل.

التأثير طويل المدى:

الرضاعة الطبيعية لا توفر الحماية الآنية فقط، بل تترك بصمة صحية تستمر حتى الكبر. فقد أظهرت الدراسات أن البالغين الذين رضعوا طبيعيًا في طفولتهم أقل عرضة لأمراض القلب والأوعية الدموية. كما أن الميكروبيوم الذي ينقله حليب الأم يستمر في التأثير على برمجة جهاز المناعة مدى الحياة.

توصيات منظمة الصحة العالمية:

منظمة الصحة العالمية أوصت بالرضاعة الطبيعية الحصرية لمدة ستة أشهر، مع الاستمرار في الرضاعة إلى عمر عامين أو أكثر مع إدخال الأطعمة التكميلية. هذه التوصية تستند إلى الأدلة العلمية التي أثبتت أن الرضاعة وحدها في هذه الفترة كافية لتزويد الطفل بالمناعة والغذاء الكامل.

التكيف الذكي لحليب الأم:

من أعجب ما في حليب الأم أنه ليس تركيبة ثابتة، بل يتغير مع عمر الطفل وحاجاته الصحية. فإذا مرض الطفل، ترتفع مستويات الأجسام المضادة في الحليب تلقائيًا لتمنحه دعمًا إضافيًا. إنها آلية ربانية ذكية تجعل الحليب أقرب إلى دواء حيّ يستجيب لحالة الرضيع.

الفوائد للأم:

الأم بدورها تجني ثمار الرضاعة الطبيعية، حيث تقل مخاطر إصابتها بسرطان الثدي والمبيض، إضافة إلى المساعدة في تنظيم الهرمونات وتقليل النزيف بعد الولادة. هذه الفوائد تجعل الرضاعة الطبيعية رابطة متبادلة النفع بين الأم وطفلها.

خاتمة:

الرضاعة الطبيعية ليست مجرد غذاء، بل هي منظومة حماية ربانية متكاملة. إنها خط الدفاع الأول للطفل، وجدار المناعة الذي يرافقه منذ ولادته وحتى مراحل متقدمة من عمره. إنها استثمار في الصحة، والعاطفة، والمستقبل، لا يمكن أن يعوضه أي بديل صناعي.

المراجع الطبية والعلمية

• Victora, C. G., et al. (2016). Breastfeeding in the 21st century: Epidemiology, mechanisms, and lifelong effect. The Lancet, 387 (10017) , 475-490.

• Oddy, W. H. (2002). The impact of breastmilk on infant and child health. Breastfeeding Review, 10 (3) , 5-18.

• Hanson, L. ?. (2007). Session 1: Feeding and infant development breast-feeding and immune function. Proceedings of the Nutrition Society, 66 (3) , 384-396.

• Walker, A. (2010). Breast milk as the gold standard for protective nutrients. Journal of Pediatrics, 156 (2 Suppl) , S3-S7.

• Ballard, O., & Morrow, A. L. (2013). Human milk composition: Nutrients and bioactive factors. Pediatric Clinics of North America, 60 (1) , 49-74.

• WHO (World Health Organization). (2003). Global strategy for infant and young child feeding. Geneva: WHO.

• Lawrence, R. A., & Lawrence, R. M. (2010). Breastfeeding: A Guide for the Medical Profession. Elsevier.

‎ • مقالات Journal of Human Lactation وPediatric Research

‎ • American Academy of Pediatrics (AAP)
استشاري طب أطفال وحساسية