آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 12:09 ص

الوطن.. اليوم الذي صار حياة

سامي آل مرزوق *

في زحمة الأيام التي تتشابه تفاصيلها وتكرر ملامحها، يبقى للوطن يوم لا يشبه سواه، يوم لا يُقاس بتقويم الأرقام، بل يُقاس بتقويم العاطفة والذاكرة، يوم يحتشد فيه التاريخ كله على أكتاف الحاضر، ويتقدم فيه المستقبل بخطوات واثقة ليصافح ماضٍ عريقاً ما برح يمدنا بالقوة. في يومنا الوطني لا نتحدث عن مناسبة عابرة، بل عن ميلاد كيان، عن فجر أزاح غشاوة الظلام، وعن أرض أقسمت أن تكون رسالة أبدية للكرامة، وملاذاً للسلام، وموطناً للإنسان.

الوطن ليس خريطة تُرسم على الورق ولا مجرد حدود تحرسها السواتر، إنما هو حالة وجدانية تسكن في شراييننا، هو نبض في القلب وصوت في الحنجرة، هو شعور يسبق كل شعور آخر، كيف لنا أن نختصر الوطن في كلمات، وهو الذي يفتح لنا عينينا مع أول صباح ويظل يحنو علينا حتى آخر مساء؟ كيف نختصره وهو الأم التي تتسع حضناً، والأب الذي يمد ظلاً، والأرض التي تنبت رزقاً، والسماء التي تظلل رحمةً وأماناً؟

في اليوم الوطني نكتشف أن الوطن لا يسكن الجغرافيا فقط، بل يسكن الأرواح، وأن العَلَم ليس مجرد قطعة قماش تتمايل في الهواء، بل شرف يُرفرف في الضمير، نكتشف أن الانتماء ليس شعاراً يُردد، بل حياة تُعاش، ودماً يُبذل، وولاءً يتجذر.

إن الاحتفاء باليوم الوطني ليس مجرد طقوسٍ أو مهرجاناتٍ أو عروضٍ تُبهج العيون، بل هو في جوهره وقفة صامتة أمام المرآة، نرى فيها وجوه آبائنا الذين غرسوا بذرة الوطن، ونرى فيها وجوه أبنائنا الذين سيحملون المشعل بعدنا. هو تذكير لنا بأن هذا الكيان لم يأتِ صدفة، ولم يُبن بسهولة، وإنما وُلد من رحم المعاناة وصُنع من صلابة العزائم.

وحين نذكر الوطن، لا بد أن نذكر القادة الذين جعلوا من الحلم حقيقة، ومن الشتات وحدة، ومن الخوف أمناً. قادة كتبوا صفحات التاريخ بمداد من تضحية وعرق وحكمة، لم يكتفوا ببناء الحجر، بل بنوا الإنسان، ولم يرضوا بأن يكون الوطن مجرد مكان، بل جعلوه معنى، وأعطوه هوية، ورسموا له ملامح استثنائية.

الوطن في يومه الوطني يشبه القصيدة التي لا تكتمل أبياتها أبداً، لأن كل جيل يضيف إليها بيتاً جديداً، وكل قائد يرسم على سطورها لوحة جديدة، وكل مواطن يخط في حروفها بصمة لا تمحى، الوطن ليس ذكرى مضت، بل هو مستقبل يتشكل، ولا عذر لنا أن نقف متفرجين على مسيرته، إذ إن الانتماء الحقيقي ليس شعوراً جامداً، بل مشاركة فاعلة، وبذل مستمر، ووفاء لا يخبو.

اليوم الوطني هو اليوم الذي نتعلم فيه أن حب الوطن ليس كلمات تقال، بل أفعال تثبت، وأن الوفاء له ليس لحظة عاطفة مؤقتة، بل مسار حياة ممتد. هو اليوم الذي يُذكرنا أن أمان الأرض من أمان الإنسان، وأن رفعتها من رفعة أبنائها، وأن ازدهارها لن يكون إلا بعرقهم وأفكارهم وجهودهم.

لقد علمنا الوطن أن المجد لا يورث جاهزاً، بل يُصنع كل يوم، وأن القمم لا تُبلغ بالتمني، بل بالتعب والصبر والإصرار. وها نحن نرى اليوم ثمرة ذلك، نعيش في ظل قيادة حكيمة جعلت من الحلم واقعاً ومن المستحيل ممكناً، قيادة تعرف أن الإنسان هو أساس النهضة وركيزتها الأولى، فاستثمرت في العقول قبل الثروات، وفي الأحلام قبل المشاريع.

الوطن في حقيقته ليس مجرد أرض نحيا فوقها، بل رسالة نُبعث بها للعالم، وواجب نؤديه، وأمانة نُسأل عنها. ولأن اليوم الوطني يوم الوفاء، فإن أوفى ما نقدمه لوطننا أن نحفظ العهد مع قادته، وأن نكون له جنداً في السلم كما في الشدائد، وأن نغرس في قلوب أبنائنا معنى الانتماء قبل أن نعلمهم الحروف.

الوطن ليس يوماً نحتفي به ونطوي صفحته، بل هو قصة ممتدة لا تُغلق دفاترها، ومسؤولية تُثقل الأعناق بقدر ما تملؤها بالعزة، إن يومنا الوطني فرصة لنقف أمام هذا العطاء الهائل ونسأل أنفسنا، هل أعطينا وطننا بقدر ما أعطانا؟ هل حفظنا عهده كما حفظ لنا الحياة والكرامة؟ في النهاية، الوطن لا يطالبنا بالكثير، بل يطالبنا بالصدق والإخلاص، وهما كفيلان بأن يخلدا اسمه فينا ونخلد نحن فيه.