مراجعة لكتاب ”عقول متشككة“ سيكولوجيا المؤامرة في زمن غياب اليقين

تبرز نظريات المؤامرة كأحد أكثر الظواهر الفكرية إثارة للجدل والاهتمام. من اغتيال جون كينيدي إلى نظريات التلاعب بالمناخ، ومن الشك في اللقاحات إلى إنكار الهبوط على سطح القمر، تتعدد الروايات وتتشابك التفسيرات، لكن القاسم المشترك بينها جميعًا هو ميل الإنسان إلى البحث عن سردية خفية تفسر ما يبدو غامضًا أو غير منطقي.
في كتابه ”عقول متشككة، لماذا نصدق نظريات المؤامرة“؟، يقدم عالم النفس البريطاني روب براذرتون، معالجة علمية دقيقة لهذه الظاهرة، متجاوزًا التفسيرات السطحية التي تربط التفكير المؤامراتي بالجهل أو الهوس، ليكشف عن جذور نفسية واجتماعية وثقافية أكثر تعقيدًا. بأسلوب علمي مشوّق، يطرح براذرتون سؤالًا جوهريًا: لماذا نميل، كبشر، إلى تصديق روايات خفية ومريبة عن العالم من حولنا، حتى عندما تفتقر إلى الأدلة؟
وبراذرتون ليس مجرد باحث أكاديمي، بل هو أحد أبرز الأصوات المعاصرة في دراسة سيكولوجيا التفكير غير العقلاني. حاصل على درجة الدكتوراه في علم النفس من جامعة لندن، وعضو في وحدة أبحاث علم النفس غير التقليدي في كلية جولدسميث، حيث يدرس الظواهر الخارقة والمعتقدات الشعبية من منظور علمي. وقد كتب في مجلات علمية وشعبية مثل Scientific American وPsychology Today, ويقيم حاليًا في نيويورك، حيث يواصل الكتابة والبحث في سيكولوجيا الشك والمعتقدات الجماعية.
صدرت الطبعة العربية من الكتاب عن مؤسسة هنداوي عام 2021، بترجمة أنجزها هاني فتحي سليمان. تضم الطبعة 313 صفحة، وتتناول بأسلوب تحليلي سيكولوجي الأسباب النفسية والاجتماعية التي تدفع البشر إلى تصديق نظريات المؤامرة، مدعومة بأمثلة تاريخية ومعاصرة. تتميز هذه الطبعة بجودة تحريرية عالية، وتوفر للقارئ العربي فرصة لفهم الظاهرة بعيدًا عن التبسيط أو الإدانة، مما يجعلها مرجعًا مهمًا في علم النفس الاجتماعي.
ينطلق براذرتون من فرضية مفادها أن الإيمان بنظريات المؤامرة ليس انحرافًا عقليًا، بل هو امتداد طبيعي لطريقة عمل العقل البشري. فالدماغ مبرمج على البحث عن الأنماط وربط الأحداث ببعضها البعض لتكوين سردية تمنحنا شعورًا بالسيطرة على الواقع. في هذا السياق، تصبح نظريات المؤامرة أدوات نفسية لتفسير العالم، خاصة في أوقات الأزمات، عندما تتزعزع الثقة بالمؤسسات وتغيب الإجابات المقنعة.
الكتاب لا يتعامل مع المؤمنين بالمؤامرات بوصفهم ”ضحايا غباء“، بل يراهم كأشخاص يستخدمون أدوات التفكير النقدي، ولكن بطريقة منحرفة عن المسار العلمي. فهم يشكّون في الرواية الرسمية، ويطالبون بالأدلة، ويبحثون عن تناقضات، لكنهم غالبًا ما يقعون في فخ التحيز التأكيدي، حيث يتم انتقاء المعلومات التي تدعم وجهة نظرهم وتجاهل ما يخالفها.
يقدم المؤلف تحليلاً شاملاً للأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة:
1. البحث عن المعنى والتماسك، العقل البشري مُبرمج للبحث عن الأنماط والعلاقات. هذه الآلية ساعدت أسلافنا على النجاة من المخاطر. لكن هذه الأداة المفيدة قد تعمل بشكل مفرط أحياناً. عندما نواجه حدثاً صادماً أو عشوائياً، يرفض عقلنا قبول فكرة ”الصدفة“. هنا تقدم نظرية المؤامرة حلاً جاهزاً: فهي تعطي معنى للحدث وتجعل العالم يبدو منظماً حتى لو كان منظماً من قبل أشرار.
2. الانحياز التأكيدي، نميل جميعاً إلى البحث عن المعلومات التي تؤكد معتقداتنا الموجودة مسبقاً، بينما نتجاهل الأدلة التي تناقضها. يشرح الكاتب كيف أن مؤيدي النظريات المؤامراتية يتقنون هذه اللعبة. أي دليل ضد النظرية يُعاد تفسيره كجزء من المؤامرة نفسها، مما يجعل النظرية غير قابلة للدحض.
3. انحياز الإدراك المتأخر، بعد وقوع الأحداث، نميل إلى الاعتقاد بأننا كنا نعرف النتيجة مسبقاً. هذه النظرة تجعلنا نرى الأحداث السابقة وكأنها أدلة واضحة تقود حتماً إلى النتيجة. نظريات المؤامرة تقدم سردية تربط كل هذه ”الأدلة“ في قصة متماسكة.
4. الحاجة إلى التميز والسيطرة، يمنح الإيمان بنظرية المؤامرة الشخص شعوراً بالتميز عن ”عامة الناس“ الذين يصدقون الرواية الرسمية. كما يعطي شعوراً زائفاً بالسيطرة على الأحداث في عالم يشعر فيه الكثيرون بالعجز والضياع.
5. العوامل الاجتماعية والهوية الجماعية، تنتشر هذه النظريات في المجتمعات التي تعاني من انعدام الثقة في المؤسسات الرسمية. يصبح الإيمان بالنظرية علامة على الانتماء إلى جماعة معينة، وهوية مشتركة ضد ”الآخر“.
يعزز براذرتون أطروحته بسلسلة من الأمثلة التاريخية والمعاصرة، منها:
• حريق روما عام 64 ميلادية، حيث اتُهم الإمبراطور نيرون بتدبير الحريق لصرف الأنظار عن مشاكله السياسية، رغم غياب الأدلة القاطعة.
• اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي، الذي تحول إلى مادة خصبة لعشرات النظريات، رغم التحقيقات الرسمية التي خلصت إلى أن القاتل تصرف بمفرده.
• نظريات المؤامرة حول اللقاحات، التي ترى فيها بعض الجماعات أدوات للسيطرة أو الإضرار، رغم الإجماع العلمي على فائدتها.
• هجمات 11 سبتمبر، التي اعتبرها البعض ”عملية داخلية“، في تجاهل صارخ للأدلة والتحقيقات.
• جائحة كوفيد -19، التي أُحيطت بسيل من النظريات، من كون الفيروس مصنعًا في مختبر، إلى أن اللقاحات تحتوي على رقائق إلكترونية للتحكم بالبشر.
هذه الأمثلة لا تُستخدم لتفنيد النظريات فحسب، بل لتوضيح كيف ينشأ التفكير المؤامراتي، وكيف يتغذى على الشك، ويعيد تفسير الأحداث بطريقة تتماشى مع سردية مسبقة.
لا يكتفي الكتاب بتشريح الظاهرة، بل يتساءل عن تداعياتها. هل الإيمان بالمؤامرات مجرد تسلية فكرية؟ أم أنه يحمل آثارًا اجتماعية وسياسية خطيرة؟ براذرتون يحذر من أن التفكير المؤامراتي قد يؤدي إلى:
1- تآكل الثقة بالمؤسسات: مما يضعف الديمقراطية ويعزز الانقسام السياسي.
2- تدمير الصحة العامة: كما هو الحال مع الامتناع عن اللقاحات، ما يهدد حياة الملايين.
3- إضعاف النسيج الاجتماعي: حيث تؤدي هذه النظريات إلى نشوء انقسامات داخل المجتمعات وبين الأفراد.
كتاب عقول متشككة لروب براذرتون يُعد معالجة نفسية رصينة لظاهرة الإيمان بنظريات المؤامرة، لكن رغم قيمته العلمية، وجه الخبراء للكتاب عدد من الانتقادات التي تتعلق بالمنهج، التوازن، والعمق الفلسفي. أبرزها:
1. التركيز المفرط على الجانب النفسي
الكتاب يركز بشكل شبه حصري على التفسيرات النفسية والمعرفية، مثل التحيز التأكيدي، الميل لرؤية الأنماط، والحاجة للسيطرة. ورغم أهمية هذه العوامل، إلا أن بعض النقّاد يرون أن براذرتون يغفل البُعد السياسي والاقتصادي لنظريات المؤامرة، مثل دور الاستعمار، التفاوت الطبقي، أو التلاعب الإعلامي، والتي قد تكون أسبابًا موضوعية للشك وليس مجرد انحرافات معرفية.
2. غياب التمييز بين المؤامرة الحقيقية والنظرية المؤامراتية
الكتاب لا يفصل بوضوح بين ”المؤامرات الفعلية“ التي وثّقتها التحقيقات التاريخية، وبين ”نظريات المؤامرة“ التي تفتقر إلى الأدلة. هذا الغموض قد يؤدي إلى خلط غير مقصود بين الشك المشروع في السلطة، وبين التفكير المؤامراتي المضلل. بعض القراء يرون أن هذا التداخل يضعف الحجة ويجعل الكتاب يبدو وكأنه يبرّئ المؤسسات من أي مساءلة.
3. الحياد المفرط في تناول الأمثلة
براذرتون يتعامل مع معظم الأمثلة التاريخية والمعاصرة بنبرة تحليلية محايدة، لكنه لا يقدّم موقفًا حاسمًا تجاه بعض النظريات الخطيرة، مثل إنكار الهولوكوست أو نظريات تفوق العرق. هذا الحياد قد يُفسَّر على أنه تهاون في مواجهة الأفكار التي تحمل تبعات أخلاقية أو سياسية جسيمة.
4. الاعتماد على أمثلة غربية الطابع
الكتاب يستند إلى أمثلة من التاريخ والسياسة الغربية، مثل اغتيال كينيدي، هجمات 11 سبتمبر، أو نظريات حول اللقاحات في الولايات المتحدة. هذا يجعل المعالجة أقل شمولًا، ويغفل السياقات الثقافية الأخرى التي تنتشر فيها نظريات المؤامرة، مثل العالم العربي أو أفريقيا، حيث تلعب عوامل مثل الاستبداد أو الاستعمار دورًا مركزيًا في تشكيل العقلية المؤامراتية.
5. غياب البُعد الفلسفي أو الأخلاقي
رغم أن الكتاب يتناول الظاهرة من منظور علم النفس، إلا أنه لا يتعمق في الأسئلة الفلسفية المرتبطة بها: هل الشك فضيلة؟ هل الإيمان بالمؤامرة شكل من أشكال مقاومة السلطة؟ هل هناك مؤامرات ”نبيلة“؟ هذه الأسئلة تغيب عن الكتاب، مما يجعله أقرب إلى الدراسة التجريبية منه إلى التأمل الفكري.
6. اللغة العلمية مقابل القارئ العام
رغم أن براذرتون يحاول تبسيط المفاهيم، إلا أن بعض الفصول تتضمن مصطلحات نفسية ومعرفية قد تكون ثقيلة على القارئ غير المتخصص.
7. الافتقار إلى حلول عملية
الكتاب يشرح الظاهرة بعمق، لكنه لا يقدّم أدوات واضحة لمواجهتها. كيف نعلّم التفكير النقدي؟ كيف نحصّن المجتمعات من الانجراف وراء السرديات الزائفة؟ كيف نتعامل مع شخص يؤمن بنظرية مؤامرة؟ هذه الأسئلة تبقى معلّقة، مما يجعل الكتاب أقرب إلى التشخيص منه إلى العلاج.
قوة كتاب ”عقول متشككة“ تكمن في أنه يذكرنا أن الميل إلى التفكير المؤامراتي هو سمة بشرية عالمية. إنه ليس شذوذًا يخص ”الآخرين“، بل هو خطر كامن في كل عقل. الفرق بين الشخص ”العقلاني“ والمؤمن بنظرية المؤامرة، هو غالباً درجة الوعي بهذه التحيزات والقدرة على كبحها والتحقق من الأدلة.
الكتاب ليس مجرد تحليل لظاهرة اجتماعية، بل هو مرآة نرى فيها أنفسنا. يدعونا براذرتن إلى التشكك حتى في شكوكنا، إلى التساؤل لماذا نريد أن نصدق قصة معينة. في عالم مليء بالضجيج والمعلومات المغلوطة، ربما يكون أهم درس في الكتاب، هو أن الفضيلة ليست في اليقين المطلق، بل في التواضع الفكري، والقدرة على قول ”لا أعرف“، والثقة في الأدلة والمنهج العلمي كأفضل أدوات لدينا لفهم عالم معقد لا يتوقف عن تحدي يقينياتنا.