آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 12:09 ص

الوزير الشاعر الذي كتب بروح الوطن

عاطف بن علي الأسود *

حين شرعتُ في قراءة سيرة الدكتور غازي القصيبي، رحمه الله، كنت أظن أنني سأطالع حكاية مسؤول بارز أو أديب متفرّد فحسب، لكنني وجدت نفسي أمام شخصية إنسانية فريدة لا يمكن حصرها في وصف واحد. كلما قرأت عنه، كلما شعرت أنني لم أقرأ بعد بما فيه الكفاية، وأن كل سطر عنه يقود إلى عشرات الأسئلة والتأملات، ولكن المقام لا يتّسع هنا لكتابة كل شيء، رغم كثرة ما يُقال ويُستحق أن يُقال.

وُلد الدكتور غازي عبد الرحمن القصيبي عام 1940 في الأحساء، وتفتّحت ملامح وعيه المبكر بين المنامة والقاهرة ولندن، حيث نال الدكتوراه في القانون من جامعة لندن. لكنه، وعلى خلاف ما درج عليه كثير من الأكاديميين، لم يتقوقع في إطار النخبة، بل عاد إلى وطنه ليكون عنصرًا فاعلًا في التنمية والإصلاح، لا مجرد مراقب من بعيد.

تولى القصيبي، رحمه الله، عددًا من المناصب الوزارية الحساسة في فترات دقيقة من تاريخ المملكة، فكان وزيرًا للصحة، ثم المياه والكهرباء، ثم العمل، وسبقها بمنصب سفير في البحرين ثم في لندن. ما يميز القصيبي في كل تلك المهام أنه لم يكن بيروقراطيًا تقليديًا، بل رجلًا يتحرك بروح المصلح، وفكر المفكر، وحساسية السياسي الواعي بتعقيدات المرحلة. كان يدير الملفات بشفافية نادرة، ويضع الإنسان في قلب القرار، واضعًا المصلحة العامة فوق كل اعتبار.

في عام 2010، وبعد معاناة صامتة مع المرض، ودّعنا الدكتور غازي القصيبي، رحمه الله، تاركًا إرثًا خالدًا من الإبداع والعمل الوطني والإنساني. رحيله كان خسارة كبيرة لكل من عرفه أو قرأ عنه، لكن ذكراه ستظل حية في قلوب محبيه وأصدقائه ومتابعي فكره.

القصيبي الإنسان… في مواقف لا تُنسى

من يقرأ للقصيبي لا يقرأ مجرد نص أدبي أو تجربة إدارية، بل يدخل في مساحة من الطمأنينة الفكرية والمواقف الراقية التي تعكس طيب أصله ورجاحة حسه.

في أمسية أقيمت بمدينة الخبر، استعاد الشاعر البحريني عبد الرحمن الرفيع، رحمه الله، موقفًا إنسانيًا نادرًا، حينما قرأ قصيدة وداع كتبها للقصيبي عندما عُيّن سفيرًا في لندن، فبادر القصيبي بردٍّ مليء بالمودة، بل قام أمام الحضور بتقبيل جبين الرفيع، في مشهد يختصر الكثير من صفاء روحه، وتقديره العميق للأصدقاء والمبدعين.

وفي موضع آخر، لم يتردد القصيبي في الإشادة العميقة بالأديب السعودي عدنان العوامي، فوصفه بأنه شاعر من طينة الكبار، وذهب إلى أبعد من ذلك حين قال إن العوامي في عمقه وبلاغته يذكّره بـ المتنبي، مع وعيه التام بثقل المقارنة. هذا التقدير لم يكن مجاملة، بل موقف نابع من شاعرٍ يمتلك ذائقة نقدية دقيقة، ويُشيد بالآخرين بثقة الرجآل الكبار.

وهكذا ترى حقًا أولئك الذين ارتقوا بالفكر؛ لا يترددون في رفع من يستحق، ولا يشعرون أن إشادة الآخرين تنقص من قيمتهم، بل تزيدهم رفعة.

العلاقة بين القارئ والكاتب: ارتباط لا يشيخ

وأنا كقارئ، أُقر أنني من أشد المتعلقين بكتابات الدكتور غازي القصيبي. وكل مرة أعود فيها إلى أحد كتبه، أشعر وكأنني أقرأه لأول مرة. في كل سطر جديد، أكتشف زاوية أعمق، فكرة أصفى، أو موقفًا يعلّمني شيئًا جديدًا عن الحياة والناس والوطن. وهذه ميزة لا يملكها إلا الكتّاب الكبار، الذين يكتبون بروحهم لا بأقلامهم فقط.

مؤلفات الدكتور غازي القصيبي: تنوعٌ بين الشعر والأدب والإدارة

ترك الدكتور غازي القصيبي، رحمه الله، إرثًا أدبيًا وثقافيًا غنيًا ومتعدد الألوان، حيث تنوّعت مؤلفاته بين دواوين شعرية، وروايات، وسير ذاتية، ومقالات نقدية، ومسارات إدارية. من أبرز مؤلفاته:

• شقة الحرية «رواية»

• العصفورية «رواية»

• حياة في الإدارة «سيرة ذاتية»

• سياحة في عقل «مقالات»

• في الشعر الجاهلي «دراسة نقدية»

• دواوين شعرية منها: عودة الروح، لمن أكتب القصيدة، نقوش على باب الذاكرة

تمثل هذه المؤلفات جانبًا من تجربته الفكرية المتنوعة التي تعكس إنسانًا يتفاعل مع مجتمعه بكل عمق وصدق، بين الحس الأدبي والرؤية الإدارية.

الأدب الذي يخدم الوطن

إلى جانب كل ذلك، كان القصيبي شاعرًا وكاتبًا استثنائيًا. امتلك حسًا أدبيًا رفيعًا، وعبّر من خلال دواوينه ومقالاته ورواياته عن قضايا الأمة، والمجتمع، والإنسان. كان أدبه صادقًا، عميقًا، أحيانًا ساخرًا وأحيانًا دامعًا، لكنه دائمًا حقيقي.

ما يعنيني في هذه القراءة ليس استعراض إنجازات القصيبي رحمه الله فحسب، بل التأمل في أثره الاجتماعي. فقد كان مثقفًا من نوع نادر؛ لا يعيش في برج عاجي، ولا يكتب ليُبهر، بل ليُغيّر. كان يرى في الكلمة رسالة، وفي المنصب أمانة، وفي الوطن ميدانًا للعمل لا منصة للخطابة.

لقد عاش الدكتور غازي القصيبي، رحمه الله، بتوازن دقيق بين العقل والوجدان، بين السلطة والقصيدة، بين الصرامة الإدارية ورهافة الشعور. وعلّمنا دون أن يقولها صراحة، أن المثقف يمكن أن يكون إداريًا ناجحًا، وأن السياسي يمكن أن يكون شاعرًا، وأن الإنسان الحقيقي لا يفصل بين ما يؤمن به وما يمارسه.

الخلاصة، سيرة الدكتور غازي القصيبي، رحمه الله، تضع أمامنا نموذجًا نادرًا لرجل جمع بين الفكر والعمل، وبين الحرف والموقف، وبين الوطن والإنسان. لم يكن مجرد اسم في دفاتر الوزارات، بل ضميرًا حاضرًا في تفاصيل الوطن، صوتًا شجاعًا في زمن الصمت، وقلمًا كتب ليُحدث فرقًا، لا ليُملأ فراغًا.

ختاماً، في زمن تتعالى فيه الأصوات وتضيع فيه المواقف، نحتاج إلى أن نُحيي سيرة من كانوا أوفياء لأوطانهم، مخلصين في أعمالهم، صادقين في أقلامهم. سيرة غازي القصيبي، رحمه الله، هي دعوة لأن نستعيد قيمة ”القدوة“، ونفهم أن المجتمعات لا تُبنى بالأنظمة فقط، بل تُبنى بالكلمة، بالنزاهة، وبالناس الذين يشبهون الوطن في أصالته وصدقه.

رحم الله الدكتور غازي القصيبي، وجزاه عن هذا الوطن خير الجزاء.


دراسات عليا اقتصاد صحي