فن الإصغاء، المهارة المفقودة
انطلاقًا من محاضرات الفيلسوف وعالم النفس الألماني إريش فروم، تشكّل كتاب عميق بعنوان «فن الإصغاء» «The Art of Listening»، يتناول أزمة إنسانية يعتبرها في جوهر كثير من مشكلات العالم. في معناه اللغوي البسيط، يشير الإصغاء إلى التزام الصمت أمام متحدث ما والاستماع إليه دون مقاطعة. غير أن فروم يذهب أبعد من ذلك؛ فهو يرى الإصغاء ممارسة وجودية تقوم على الصبر والتأني والتركيز العميق، وعلى إبداء التعاطف والاحترام الصادق للمتحدث. ليس ذلك الاحترام الجدلي المموَّه، الذي يخفي في داخله رغبة في الغلبة أو الهيمنة، بل هو احترام محبّ يتيح لصاحب الرأي أن يعبّر عن فكرته كاملة، في جو يسوده الهدوء ويغيب عنه التوتر والانفعال.
في جوهر الإصغاء يقول إريش فروم:
”Listening is an art which requires attention over talent, spirit over ego, others over self.“
«الإصغاء فن يتطلب الانتباه أكثر من الموهبة، الروح أكثر من الأنا، والآخر أكثر من الذات.»
وحين يتحدث عن الإصغاء كشرط للفهم يقول:
”The most important condition for listening is that the listener be truly interested in the other person.“
«أهم شرط للإصغاء هو أن يكون المستمع مهتمًا حقًا بالشخص الآخر.»
كما يصف الإصغاء العميق بقوله:
”To listen means to be fully present, with all one’s attention and without any preconceptions.“
«أن تصغي يعني أن تكون حاضرًا بالكامل، بكل انتباهك ودون أي أحكام مسبقة.»
وفي وصفه للإصغاء في العلاج النفسي يكتب:
”In therapy, listening is not only hearing the words, but perceiving the emotions, the silences, and what remains unspoken.“
«في العلاج، الإصغاء لا يعني فقط سماع الكلمات، بل إدراك المشاعر، والصمت، وما يبقى غير مُقال.»
هذه الكلمات حين أضعها أمام نفسي قبل أي شخص آخر، أجدني مثالًا على الإنسان غير المصغي. أدرك أنني، مثل كثيرين، أعيش أحيانًا ما يمكن تسميته ”أزمة حلبة المصارعة“: حيث يغدو الحديث صراعًا لإثبات الذات، حتى وإن ارتسمت الابتسامات على الوجوه. في مثل هذا الجو، يصبح الصمت استراحة مقاتل أو درعًا يخفي وراءه الاستعداد للهجوم، فتتحول الكلمات إلى سهام تتطاير هنا وهناك. ولعلنا نختبر ذلك يوميًا في أبسط المواقف: كأن يقاطع أحدنا حديث آخر ليُثبت صحة رأيه، أو أن يتحوّل نقاش عائلي بسيط إلى جدل محتدم تنفلت فيه الأعصاب. في مثل هذه اللحظات، يغيب الإصغاء الحق، ويعلو صوت الرغبة في الانتصار على صوت الفهم. ولو أننا منحنا المتحدث دقائق قليلة ليُكمل فكرته، وشاركناه بعدها ما فهمناه بصدق، لانطفأ كثير من التوتر، وربما تبددت المشكلة قبل أن تتسع. هنا فروم لا يتوقف عند تشخيص هذه الأزمة، بل يفتح لنا أفقًا آخر: الإصغاء كفعل إنساني محرِّر، يُخرج الحوار من حلبة الصراع إلى مساحة تفاهم وتعاطف، حيث يصبح الصمت فسحة للفهم لا ساحة للاختباء، وحينها فقط تتحول الكلمات إلى جسور تُبنى لا سهام تُطلق.
أدعو نفسي، وكل من يرغب، إلى تجربة هذا الفن عبر التدرّب على الإصغاء العميق: أن نفتح قلوبنا قبل آذاننا للمتحدث، وأن نسعى لفهم مقصده حتى إن بدت كلماته مبعثرة. وأن نعيد عليه ما فهمناه بعد أن يفرغ من حديثه، كي يمنحنا بركة التأكيد أو التصحيح. وحين ننجح، نحن المتمرنون على الإصغاء، في جعل هذه الممارسة عادة راسخة في كل أحاديثنا، نكون قد اكتسبنا فنًا عظيمًا، وجنّبنا أنفسنا الكثير من الشرور وسوء الفهم والنزاعات التي يولّدها غياب الإصغاء الحقيقي. فالإصغاء في جوهره ليس مجرد مهارة تواصل، بل هو موقف إنساني أصيل يعيد بناء جسور المحبة والتفاهم بين الذات والآخرين.