الكلام المؤثر والإصغاء الفعّال
هل تشعر بأن رأسك صدع لكثرة المتحدثين عن فنون التحدث والإلقاء الجماهيري والخطابة! وقلة المتحدثين عن فنون الإصغاء والاستماع؟! شخصيًا، مللت كثرة المتحدثين عن فنون الإصغاء وقلة الباحثين عن سبب ضجر المستمعين وصدودهم عن الاستماع لبعض المتحدثين. فالإنسان بطبعه يمل من طول الحديث أو إطنابه أو تكراره أو تعقيداته وتشابكه، أو كذب المتحدث ونفاقه، أو تناقض المتحدث في حديثه عن واقعه، أو تملقه، أو كثرة هفواته. وعليه، لا يحق لأي متحدث أو خطيب، وإن كان مفوهًا، الشكوى والتذمّر من المحيطين به إذا كان هو ثرثارًا أو منافقًا أو مسهبًا بالحديث، أو متفرعًا بالمواضيع عند الحديث حدّ التشتيت، أو فاحشًا في عباراته، أو بذيء في تعبيراته، أو شاطحًا في مفرداته، أو مقززًا في جُمله، أو مستفزًا في إيحاءاته وغمزاته، أو مشتتًا في طرحه، أو مستفردًا بالحديث بالمجلس لوحده. عند تحدث أي شخص حريص على إيصال فكرته / رسالته / موضوعه، فإنه لا بد له من التركيز والإيجاز والوضوح في طرح فكرته، وإلا فالإهمال للمتحدث وتجاهله من قبل المستمعين أمر واقع بلا شك، وإن تظاهر الجالسون بعكس ذلك خوفًا أو مجاملة أو اتقاء شرّ سطوة المتحدث.
الاتصال والتواصل فنون وعلوم ومهارات، وما زلنا نستكشف جديد آفاقها يومًا بعد يوم، ولطيف أساليب ممارستها، وآثار إجادة فنونها. فكل يوم أنا وأنت، نتأثر بفكرة، ونتفاعل مع طرح، وننتقد موضوعًا، ونحلل خبرًا، ونستنسخ تجربة، وننشُد مشورة، ونبحث عن أسلوب معالجة لمعضلة ما، ونتخاطب مع الآخرين لكسب مودتهم، ونقنع آخرين لبيعهم، ونفاوض آخرين لنشتري منهم؛ وهكذا هي الأمور في مسيرة حياة كلٍّ منا اليومية.
لنكتشف أنه كما لالإصغاء فنون، كذلك للحديث فنون. فلعل أكثر فنون الإصغاء والاستماع تأثيرًا في حياة الزوج هي حسن استماعه لزوجته، والعكس صحيح. وكذلك حسن الحديث ووضوحه وإيجازه عند تحدث أحدهم مع أي طرف آخر. فإن هذا وذاك جسر بين المتحدث والمستمع له، وتكمن أهمية الحديث بصورة أكبر إذا كان طرفاه الزوجين، أو المتحابين، أو حديثي الخطبة، أو إمام جماعة، أو معلم عقيدة، أو ملاحد مشكك.
الإصغاء الفعّال غير محصور في أن تصمت حين يتحدث الآخر، بل أن تصغي بكل جوارحك ومشاعرك وقلبك وعقلك. وأيضًا، أن تركز، وأن تنظر في عيني المتحدث بين الحين والآخر، وتتلمس مقاصد ومعاني وفحوى كل جملة قالها ويقولها المتحدث، وتتجنب المقاطعة للحديث أو التعليق أثناء حديث الآخر لك أو التشويش عليه. تجنب القفز من موضوع لآخر إلا بعد إعداد مقدمات وإحداث سلاسة في الانتقال من موضوع لآخر لتفادي الخلط والهرج والتشويش.
عندما يشاركك شريك حياتك أفكاره أو طموحه أو أحلامه أو همومه، فهو يبحث عن مستمع فعّال وليس عن حلول سحرية لوضعه. خلق الإحساس بالألفة والامتنان للمتحدث في قلب من يفهمه ويصغي إليه أمر ينمّي شجر المودة والمعروف والإحسان بينهما.
المجاملة صفة سائدة في بداية التعارف بين الرجل والمرأة إذا كان الأمر بهدف التعرف على شخص كلٍّ منهما للآخر والمصاهرة تباعًا. قد يجيد أحدهما أو كلاهما لبس الأقنعة والتمثيل، وعلى الجادين في إقرار حياتهما من البداية بذل جهودهما لكشف واقعهما دون مساحيق ودون مجاملات ودون خداع لكي يكون زواجهما ناجحًا ومستقرًا. فلقد قال أحدهم: إذا رأيت أم خطيبتك متصدّرة الكلام في كل صغيرة وكبيرة، فإنك ستعيش مع ناشزًا بنت ناشز؛ وإذا رأيت أخت خطيبتك في قرارات خطيبتك، فإنك ستعيش مع من لا يحفظ أسرارك؛ وإذا رأيت أخوات خطيبتك لا يعيرن اهتمامًا بالحشمة والحياء والعفة والوقار، فإنك ستعاني بتربية بناتك؛ وإذا تقدمت لفتاة متعلقة بالهاتف الجوال، فإنك ستعيش في ظل المقارنات والمماحكات. تضافر جهود الخاطب والمخطوبة في حديث تختلج فيه الصراحة بواقعهم وتطلعاتهم وشغفهم لبلورة قصة زواج ناجح وأسرة متميزة وتخطيط سليم حتمًا سيفرع عنه غرس شجرة وتفرع غصون خضراء وثمار وافرة وحب دائم.
كثير من التفاهمات بين الأزواج تبدأ لأن أحدهما يصغي بإمعان أو يعطي اهتمامًا كافيًا لحديث شريك حياته. وكثير من الأزواج يسعد لسماع صوت زوجته إن هي أجادت فنون الملاطفة والمفاكهة والتجديد؛ ويمل سماع زوجته لأنها محصورة في طلب جلب الحاجات وزيارة المستشفيات والشكوى من الطقس والتذمّر من أخبار العالم والإغراق في الطلبات المنهكة.
وبه ما به، وعليه ما عليه.
ولعلي أنصح بقراءة كتاب Politics of Office.
وهناك أنواع أخرى مثل حديث المقاهي، حديث المطارات وحديث السفر تتطلب مهارات وفن كسر قوالب الثلج.
عند ابتلاء أحدنا بوجوده في ديوانية يتزعمها مجموعة ثرثارين متسلطين، أو وجودنا في مجلس يحاضر فيه متحدث ضعيف التحضير وهزيل المعرفة، أو عند وجودنا في مقر عمل يترأسه شخص متسلط وغبي وصل منصبه بالواسطة والعلاقات، فمن الفطنة توظيف ذلك البلاء إلى نزهة في العقول ومعرفة البشر وأصناف النفوس، وحقيقة أبناء بعض الطبقات الاجتماعية، وسياحة في ملافظ الألسن وتشخيص أهل المعرفة، واكتشاف أحوال بعض البشر ودرجات التفاؤل / اليأس، وتمحيص الواقع والعمل الجاد للخروج من هذا أو ذاك الوسط إن كان سيئًا بأقرب فرصة ممكنة.
1- كثير من المعضلات والإشكالات تنجلي وتنتهي بمجرد أن يجد كل طرف من ينصت له بصدق، ويتحدث المتحدث بلباقة وإيجاز ووضوح.
2- الإنصات الحقيقي والفعّال هو رسالة احترام للمتحدث، وضمنًا تنطوي على إيحاءات مثل: ”أنت عزيز. ومهم ومحط تقدير… وكلماتك وأفكارك تهمني… ومشاعرك وأحاسيسك أقدرها… وأنا مستفيد من حديثك“.
3- المستمع بجدّ لمن يحدثه لا يكرر جملة: ”ممكن تعيد… إيش قلت؟“ بشكل مكرر. المتحدث يعلم متى وكيف يتحدث لكي نصغي له أسماع الآخرين بصدق. نفتح مسامعنا من أجل الفهم إذا وجدنا أن ما يتم الحديث عنه أمر يستحق؛ تفادي تحميل الكلمات ما لا تحتمل وسدّ كل أبواب سوء الظن أمور مهمة.
إجادة فنون الحديث والإصغاء تزيد مساحة الفهم والتفاهم، وبذلك تقترب القلوب بالكلمات كما تنفر أيضًا بالكلمات.