القلوب الرحيمة أمل في زمن القسوة
لقد تحدَّثنا في المقال السَّابق عن سليط اللسان؛ ذاك الذي يجعل من كلماته سلاحًا يجرح به مشاعر الآخرين، فيزرع القسوة حيثما جلس، ويترك وراءه فجوة في القلوب لا تُردم بسهولة؛ فهو لا يعرف أنَّ اللسان مرآة القلب، وأنَّ أثر الكلمة قد يمتد أكثر من أثر السَّهم.
وعلى النَّقيض من سليط اللسان، يقف صاحب القلب الرَّحيم؛ الإنسان الذي تبدأ طيبته من داخله قبل أن تنعكس على لسانه أو أفعاله. هو ذاك الذي إذا جلس، خلَّف وراءه سكينةً تريح القلب وطمأنينةً تُبهج الرُّوح، وإذا اقترب من الآخرين، شعروا وكأنَّ أثقالهم قد خفَّت، وأنَ للحياة وجهاً لا يزال يستحق أن يُعاش.
يبثُّ البسمة في عزِّ المواساة، ويزرع الأمل كلَّما مدَّ يد العون، ويمنح من حوله يقينًا بأنَّ الدُّنيا ما زالت بخير، ما دام فيها قلبٌ نقيّ، عطوف، صادق النيَّة.
يا ترى كم من قلب رحيم يعيش بيننا اليوم؟
هذه النَّوعيَّة من الأشخاص قد تندر في مجتمعاتنا، ولذلك تراهم متميِّزين، يسطع حضورهم أينما وجدوا. فبمجرَّد ذكر أسمائهم تتسع الصُّدور، وتبهج القلوب، وكأنَّهم نسمة باردة في قيظ الحر. وما إن تضيق الدُّنيا بشخص وتثقل عليه همومه، إلَّا ويبحث تلقائيًا عن مثل هؤلاء؛ أولئك الذين لا يملكون حلولًا سحريَّة؛ لكنَّهم يملكون ما هو أعمق: قلبًا عطوفًا يخفف عنك، وكلمة صادقة تبعث فيك الطَّمأنينة. وقد يكون هذا القلب يشبه قلب أم تحتضن ولدها، مع أنَّ الرَّابط بينك وبينه قد لا يتجاوز مجرَّد معرفة؛ لكنَّه يحمل من النَّقاء ما يجعله أقرب إليك من بعض الأقربين.
إنَّ أثرهم يتجاوز الاستماع إلى الشَّكوى، ليصل إلى بث روح جديدة تُنسيك ألم اللحظة وتمنحك قوَّة للاستمرار؛ فإنَّهم صمام أمان للعلاقات، يكفي حضورهم لخفض حدَّة التَّوتر، ويكفي حديثهم لتقريب وجهات النَّظر، ويكفي وجودهم كي تعود القلوب مطمئنة. وليس الأمر حكرًا على مواقف عظيمة أو أحداث كبرى؛ فقد يكون في صديق يجلس إليك ليستمع بصدق، أو جار يطرق بابك ليواسيك في ضيق، أو معلِّم يضع يده على كتف تلميذه الخائف ليمنحه الثقة بنفسه. وهذه المواقف الصَّغيرة هي التي تصنع الفرق، وتترك أثرًا لا يُنسى. ومثل هؤلاء نبحث عنهم ونسأل: أين نجدهم؟
فهم قوَّة إيجابيَّة تُنعش الرُّوح وتضيء المجالس، على عكس الأشخاص السلبيين الذين ما إن تجلس معهم نصف ساعة حتَّى يغرقوك في قصص وهموم البشريَّة، لدرجة أنَّك تتمنى لو بقيت في بيتك ولم تسمع شيئًا. وبالطَّبع نحن لا نتحدَّث عن الذين يقدِّمون المساعدة بالمال فقط؛ بل أولئك الذين يمنحون الكلمة الطَّيبة، ويقترحون الحلول لمشاكل الآخرين الشَّخصيَّة والاجتماعيَّة والأسريَّة، فيكون أثرهم أعمق من العطاء المادي.
لكن، وكما لكلِّ نعمة ابتلاء، فإنَّ وجود أصحاب القلوب الرَّحيمة قد يتحوَّل أحيانًا إلى عبء عليهم أنفسهم. فحبهم للعطاء ونقاء نواياهم يجعلانهم عرضة للاستغلال من بعض من لا يقدِّرون معنى الرَّحمة. وهؤلاء يستغلون صاحب القلب العطوف؛ لأنَّه لا يردّ سائلًا، ولا يتأخر عن مدِّ يد المساعدة، فيثقلون كاهله بطلبات لا تنتهي ومشاكل متكررة، حتَّى يصبح حضوره عندهم أمرًا بديهيًا لا شكر فيه ولا تقدير.
ومع مرور الوقت، يبدأ هذا الضَّغط المستمر في التَّأثير على عطائه الطَّبيعي؛ ذاك العطاء الذي انطلق من حب داخلي للخير، لا من انتظار مقابل. ومع تراكم الاستنزاف، قد يخفت نوره شيئًا فشيئًا، ليجد نفسه أمام معادلة قاسية: هل يستمر في العطاء على حساب راحته وسلامه النَّفسي، أم يتراجع ليحفظ ذاته؟
وحين يصل صاحب القلب الرَّحيم إلى مرحلة يشعر فيها أنَّه يُستغل، تتغير ملامح عطائه تدريجيًا. فقد يضع حدودًا لم يكن يعرفها من قبل، أو يغلق أبوابه في وجه من اعتادوا طرقها، وربما ينسحب بصمت من دوائر كان فيها عنصرًا فاعلًا ومصدر راحة للآخرين. وهذه ردة فعل طبيعية لا تنبع من قسوة؛ بل من تراكم الجراح والإرهاق النَّفسي.
وهنا تكمن الخسارة الكبرى للمجتمع؛ إذ لا يخسر شخصًا طيبًا فحسب؛ وإنَّما يخسر قوَّة رحمة وأمل كانت تملأ الفضاء من حولها. وعندما ينطفئ قلب عطوف بسبب سوء معاملة الآخرين، يترك فراغًا إنسانيًا يصعب تعويضه؛ لأنَّ الرَّحمة الحقيقيَّة تُولد مع أصحابها وتُعاش معهم، ولا تُشترى.
ويبقى أصحاب القلوب الرَّحيمة حالة استثنائيَّة في حياتنا؛ فهم مصدر أمل وسكينة؛ لكنَّهم في الوقت نفسه عرضة للاستنزاف والاستغلال؛ فالإيجابيَّة التي يحملونها قادرة على ترميم ما تهدَّم من علاقات وبثّ الطمأنينة في النُّفوس؛ لكن إن لم نجد من يحافظ عليهم ويحترم عطائهم، سنخسرهم ونخسر معهم قيمة إنسانيَّة نادرة لا تُقدَّر بثمن.
ومن هنا تأتي مسؤوليتنا اتِّجاههم: أن نُحيطهم بالتقدير، ونقف إلى جانبهم كما وقفوا معنا، وألَّا ننتظر رحيلهم لنعترف بجميل عطائهم.
إنَّ تكريمهم في حياتهم، بالكلمة الطَّيبة والامتنان الصَّادق، هو أقل ما يمكن أن نقدِّمه لهم، كي يستمر عطاؤهم دون أن ينهكه الاستغلال أو يطفئه الجحود؛ فالمجتمع الذي يعرف كيف يحافظ على الطَّيبين فيه، هو مجتمع يحافظ على إنسانيته قبل كلِّ شيء.