آخر تحديث: 20 / 9 / 2025م - 11:54 م

القطيف بعيون المستقبل

ياسين آل خليل

القطيف مدينة حيّة ذات حضارة متجذرة في أعماق التاريخ. في شوارعها وأسواقها القديمة اختلطت أصوات البحّارة مع نداءات الباعة، وتجاورت بيوت الطين مع واحات النخيل، لتصنع لوحة لا تزال عالقة في ذاكرة أهلها وزوارها. غير أن قلب هذه المدينة، وخصوصًا الأحياء المجاورة لشارع الملك عبد العزيز، تعيش اليوم حالة من التشوه البصري بعد إزالة عدد من المباني بهدف توسعة الطريق، تاركةً مشهدًا لا يليق بمكانة القطيف العريقة.

ما يبدو تشوهًا للعين يمكن أن يكون فرصة للتجديد. تلك المساحات المفتوحة وما تبقى من بيوتات متهالكة ليست عبئًا، بل قاعدة يمكن أن ينطلق منها مشاريع تغيّر وجه مركز المدينة. ففي مدن كبرى حول العالم، كان ترميم المباني التاريخية وتحويلها إلى مقاهٍ ومطاعم وأسواق تراثية هو المفتاح لإعادة الحياة إلى المراكز القديمة للمدن، وهو ما يمكن أن يحدث في القطيف إذا ما قُرأت هذه اللحظة بعيون المستقبل. هذا ما ينتظره عشاق هذه المحافظة من أن يتحول وسط البلد إلى ورشة عمل تُعاد فيه صياغة البيئة العمرانية لهذه المدينة العريقة.

تخيّل زائرًا يدخل مقهى داخل بيت طيني قديم أُعيد ترميمه بعناية، يجلس بين جدرانه التي تحمل عبق الماضي، بينما يستمتع بخدمة عصرية وبيئة راقية. أو عائلة تتجول في سوق شعبي أعيد تنظيمه ليستضيف معارض للحرفيين وفعاليات ثقافية تعكس هوية المكان. هذه التجارب لا تصنع ترفيهًا مألوفا وكفى، بل تُقدّم هوية قطيفية أصيلة يصعب أن تجدها في أي مُجمّع تجاري مُغلق.

لكن لا يمكن أن تُختزل الرؤية في مبادرات فردية متفرقة، إذ إن ترك المجال للمستثمرين دون إطار واضح سيقود إلى مبانٍ وواجهات مشوهة تفتقر إلى الترتيب والتنظيم المطلوبين. من هنا تبرز الحاجة لأن تتولى الجهات الحكومية المعنية، من بلديات وهيئات تطوير، إعداد مخطط حضري متكامل يرسخ هوية وسط القطيف المستقبلية، ويوجه الاستثمارات نحو مشاريع منسجمة تعكس روح الرؤية الوطنية في إنشاء مدن متجانسة، نابضة بالحياة، ومتوافقة مع معايير الكود السعودي للبناء.

هذه الرؤية يمكن أن تشمل مزيجًا من العناصر: مبانٍ تاريخية مرممة تتحول إلى مطاعم ومقاهٍ، ساحات عامة تستضيف الأسواق الشعبية والمهرجانات، أسواق مفتوحة «outlets» تجمع بين العلامات العالمية والتجار المحليين، مسارات للمشاة والدراجات تربط السوق بالواجهة البحرية، وفنادق بوتيك صغيرة تمنح الزوار تجربة فريدة. عندها يصبح وسط القطيف أكثر من مجرد مركز تجاري، بل رحلة متكاملة يعيشها المقيم والزائر معًا.

المردود المتوقع لا يتوقف عند حدود الجماليات. فالمشروع يعني فرص عمل جديدة، تنشيط الحركة التجارية، وجذب استثمارات محلية وأجنبية. كما أنه يسهم في رفع جودة الحياة، ويوفر فضاءات عامة للعائلات والشباب، ويضع القطيف على خارطة الوجهات السياحية البارزة في المنطقة الشرقية.

وسط القطيف اليوم يقف أمام مفترق طرق. إما أن يُترك أسير الفوضى العمرانية والتشوه البصريّ، أو أن تتبناه مؤسسات الدولة برؤية موحدة، ليصبح نموذجًا حضاريًا يزاوج بين الأصالة والحداثة. نحن أمام لحظة يمكن أن تحوّل قلب هذه المدينة النابضة بالحياة إلى مركز سياحي، اقتصادي، وثقافي يليق بتاريخها ومكانتها، علاوة على ما يمثله هذا الإجراء من إضافة حقيقية لمسيرة التطوير التي تشهدها مملكتنا الحبيبة.