فن الانتباه.. حكمة القيادة المستعارة من الأدب السعودي
عندما يصبح المجهر بوصلة: حكمة القيادة في ”أصغر من رجل بعوضة“ لحسن البطران
في صمت الفضاء السحيق، وعلى بعد ملايين الأميال من الأرض، كان مسبار المريخ المداري «Mars Climate Orbiter» يقترب من لحظة الحقيقة في سبتمبر من عام 1999. كان هذا الإنجاز الهندسي، الذي تكلف 125 مليون دولار، يحمل معه أحلام أمة وتطلعات نخبة من علماء العالم. لكن فجأة، وبدون سابق إنذار، انقطع الاتصال. تحول الحلم إلى حطام صامت على سطح الكوكب الأحمر. التحقيقات لاحقًا لم تكشف عن عطل ميكانيكي هائل أو انفجار دراماتيكي، بل عن حقيقة أكثر إثارة للقلق: خطأ ”صغير“ جدًا. في مكان ما على الأرض، قام فريق من المهندسين بحساب قوة الدفع بالوحدات الإنجليزية، بينما قام نظام الملاحة ببرمجتها بالوحدات المترية. تفصيل بسيط، هامشي، تفصيل ”أصغر من رجل بعوضة“ كان كفيلاً بتحطيم آلة عملاقة.
هذه الحادثة ليست مجرد قصة عن الأرقام، بل هي حكمة قاسية تتردد أصداؤها في قاعات مجالس الإدارة ومكاتب المديرين التنفيذيين. إذا كانت هذه هي النتائج الكارثية لتجاهل التفاصيل في عالم الآلات الصماء، فماذا عن التفاصيل التي نتجاهلها يوميًا في العنصر الأكثر تعقيدًا وقوة: العنصر البشري؟ ماذا عن نبرة صوت في مكالمة مع عميل، أو فكرة لم تُسمع في اجتماع، أو شعور بالإحباط في عين موظف؟
سبحان من أبدع في عقلٍ يرى الخيط الرفيع الذي ينسج معًا ما لا يتوقع ترابطه. ففي عينيه، لا يعود الأدب مجرد قصص للتسلية، ولا تعود الإدارة مجرد أرقام ورسوم بيانية. بل يصبحان كلاهما تجليًا لنظام كوني واحد. ومن هذا المنظور، لم يعد كتاب ”أصغر من رجل بعوضة“ للكاتب حسن البطران مجرد مجموعة قصصية، بل أصبح دراسة حالة تكشف لنا عن ثلاث ومضات من الحكمة الإدارية.
وهو مثال ساطع على الكيفية التي يختزن بها الأدب السعودي المعاصر حكمة عملية.
في علم الاجتماع الإداري، هناك نظرية قاسية تُعرف بـ ”نظرية النوافذ المكسورة“، وتقول إن تجاهل أصغر علامات الإهمال الظاهرة يرسل رسالة قاتلة مفادها: ”لا أحد يهتم“، وهذه الرسالة وحدها كفيلة بجذب فشل أكبر. هذا المفهوم يجد تجسيدًا مباشرًا ومخيفًا في قصة:
باب
غفل عنه الملك،
مزقت الذئاب بطون الغنم..
«ص. 40، القسم 7»
هذه القصة هي استعارة مثالية لفشل القيادة. ”الملك“ هو المدير التنفيذي أو القائد المسؤول. ”الغنم“ هم الموظفون، العملاء، أو أصول الشركة. ”الذئاب“ هي المخاطر التنافسية أو المشاكل الداخلية. أما ”الباب“ الذي غفل عنه الملك، فهو تلك ”النافذة المكسورة“؛ قد يكون نظام رقابة ضعيف، أو تجاهل لشكاوى الموظفين، أو ثغرة في الأمن السيبراني. فعل الإهمال الصغير، ”غفل عنه“، كان هو الإشارة التي سمحت بحدوث الكارثة. القائد الذي لا ينتبه إلى ”الأبواب“ الصغيرة المفتوحة في مملكته، سيستيقظ حتمًا على أصوات الذئاب وهي تمزق قطيعه.
ننتقل الآن من الإهمال السلبي إلى الفعل الإيجابي الذي يأتي بنتائج كارثية. ”أثر الفراشة“ ليس فقط عن الصدف، بل عن القرارات المدروسة التي، بسبب تعقيد النظام، تؤدي إلى عكس ما هو مخطط له. هذا هو الرعب الحقيقي في التخطيط الاستراتيجي، وقد جسده البطران بعبقرية في قصة:
كأنها تكسير
أرادت أن تزيح صخرة عالقة في طريقها، لم تستطع.
استعانت ببعض المعاول والمطارق لتكسيرها، كسرتها
فأغلقت عليها الطريق..!!
«ص. 56، القسم 11»
هنا، النية كانت سليمة تمامًا: ”إزاحة صخرة“ أي حل مشكلة. والقرار كان منطقيًا: ”الاستعانة بالمعاول والمطارق“ أي استخدام الموارد المتاحة. لكن نتيجة هذا الحل المدروس كانت كارثية، حيث أغلقت فتات الصخرة الطريق بالكامل. هذا يوازي تمامًا الشركة التي، في محاولة لزيادة الأرباح «إزاحة الصخرة»، تقوم بتسريح جماعي للموظفين «استخدام المطارق»، فتكون النتيجة انهيار الروح المعنوية وفقدان الخبرات، مما يؤدي إلى فشل الشركة بالكامل «إغلاق الطريق». القصة تحذر القادة من أن قوة الحل قد تخلق أحيانًا مشكلة أكبر من المشكلة الأصلية.
إن العقل الاستراتيجي لا يتوقف عند تجنب الكوارث، بل يسعى لصناعة المعجزات. هنا نصل إلى ومضة ”بذرة النور“، التجسيد الأدبي لفلسفة ”كايزن“ التي تحتفي بالأثر الإيجابي الهائل للأفعال الإنسانية الصغيرة. هذه الفلسفة تتجلى بعمق في قصة:
دواء تحت أقدام
... رجعت إلى أمي وتقاطرت من عينها دموع
ثم ابتسمت ونظرت إلي
واختفت تلك الجروحات ولم يبق منها إلا ذكراها أثراً!!
«ص. 70، القسم 14»
هذه القصة هي درس بليغ في القيادة بالذكاء العاطفي. الجروح هنا ”عميقة لكنها لا تنزف“، أي أنها جروح نفسية ومعنوية، كتلك التي تصيب الموظفين بسبب الإرهاق أو قلة التقدير. ”الطبيب“ بأساليبه التقليدية فشل في علاجها، تمامًا كما تفشل تقارير الأداء والمكافآت المادية أحيانًا في علاج الروح المعنوية المحطمة. الشفاء جاء من ”نظرة الأم وابتسامتها“، وهي لفتة إنسانية بسيطة جدًا لكنها صادقة. هذه النظرة هي ”الكايزن“ الحقيقي، هي اللمسة التي لا تكلف شيئًا لكنها تصل إلى عمق الجرح. القائد الذي يمتلك هذه ”النظرة“ - القدرة على رؤية معاناة فريقه الخفية وتقديرهم بصدق - هو من يستطيع شفاء منظومته وبناء ولاء لا يُشترى.
من مسبار المريخ المحطم، مرورًا بجدار الثقة المتصدع، ووصولًا إلى قلب العاصفة الذي أبصر النور، نكتشف أن المبادئ التي تحكم عالم الأعمال المعقد هي ذاتها التي تنبض في قلب قصة قصيرة جدًا. لقد علمنا حسن البطران أن الأدب، مثله مثل الإدارة، هو في جوهره فن الانتباه.
الانتباه إلى ”النافذة المكسورة“ قبل أن يتداعى المبنى، والانتباه إلى ”رفرفة الجناح“ قبل أن يحل الإعصار، والأهم من ذلك كله، الانتباه إلى ”بذرة النور“ في كل فرد لتنمو وتزهر.
لذلك أقول إن الاستراتيجية المطلقة ليست صولجان الملك، بل هي فن الاستماع إلى طنين جناح البعوضة، ففي اهتزازته الأولى تُعزف سيمفونية النصر أو المأساة.
فبعد أن تجلى لنا أن الفشل يكمن في إهمال التفاصيل، وأن النجاح يُولد من اللمسات الإنسانية، يبقى السؤال: هل القيادة الحقيقية هي فن الموازنة بين منطق المهندس الذي يحلل، وحدس الشاعر الذي يرى، أم أنها القدرة على أن يكون الاثنان في آنٍ واحد؟ وإذا كان ذلك ممكناً، فمتى يختار القائد أن يكون هذا أو ذاك، وهل يمكن أن يكون الاثنان في نفس اللحظة؟