آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 12:09 ص

رحلة الإنسان بين قيم الروح وضغوط الاستهلاك

سراج علي أبو السعود *

يضع الفيلسوف الألماني إريك فروم في كتابه «?To Have or To Be» مقارنةً بين مسارين أساسيين في رحلة الإنسان نحو اكتمال ذاته. فهو يرى أن الإنسان بطبيعته كائن ناقص يسعى دائماً إلى سد هذا النقص؛ كما يفعل الجائع حين يبحث عما يُشبع حاجته. غير أن ما يختاره ليُشبع جوعه قد يكون غذاءً صحياً يمده بالحياة، أو طعاماً مضراً يحمل عواقب وخيمة. على هذا الأساس، يميّز فروم بين طريقين:

طريق الامتلاك: الذي يجعل من تراكم الثروة غاية في ذاتها.

طريق الوجود: الذي يتمثل في بناء الذات عبر تنمية القيم الأخلاقية والمعارف الإنسانية. وفي هذا التصور، لا تُرفض الثروة مطلقاً، بل يُعاد النظر إليها كوسيلة لخدمة النمو الروحي والعقلي، لا كغاية مستقلة بذاتها.

في مقالي السابق «المال بين صناعة القيمة وصناعة الوهم» أشرتُ إلى دور التربية السلبية في تشكيل المجتمع الرأسمالي. أواصل هنا الاستطراد بإضافة ما أسميه: فلسفة الحاجة. والسؤال الجوهري هو: متى يصبح التملك حاجة حقيقية؟

يرى الفلاسفة أن الحاجة هي المحرك الأساسي للسلوك الإنساني، بل هي القوة التي توجه التاريخ والمجتمع. ويمكن تصنيفها إلى ثلاث مراتب:

1- حاجات مادية أساسية: كالطعام والشراب والمسكن والأمان.

2- حاجات نفسية: كالحب، والاعتراف، والتقدير، والانتماء.

3- حاجات روحية أو وجودية: كالحرية، والبحث عن المعنى، والسعي نحو الخلود والكمال.

ما يعنينا هنا هو الحاجات النفسية والروحية من زاوية تربوية. فالتربية التي تُلقّن الطفل منذ الصغر أن اكتمال ذاته يتحقق عبر الامتلاك «To have»، تبرمج لا وعيه ليرى التملك وسيلة لتعويض فراغه الداخلي. وهكذا قد يتحول اقتناء سيارة فارهة في الكبر إلى محاولة غير واعية لاكتساب التقدير أو الانتماء إلى طبقة اجتماعية معينة. في المقابل، التربية التي تقوم على معيار الوجود «To be» تفتح أمام الإنسان أبواباً أوسع؛ إذ تجعله يكتشف أن العلم والأخلاق هما مصدر التوازن الداخلي الحقيقي. فالطفل الذي يتعلّم أن قيمته لا تقاس بما يملكه من ألعاب أو بما يجمعه من ”Like“ على منشور في وسائل التواصل، بل بما يحمله من معرفة ومبادئ، سيكبر وهو أكثر تحرراً من ضغط المجتمع وأهواء الآخرين. عندها تصبح أفعاله صادرة عن وعيٍ راسخ، لا عن سعيٍ محموم لإرضاء أعين المراقبين. عند هذه النقطة يمكن القول إن بذرة مقاومة الرأسمالية تكمن في إعادة تشكيل وعي الإنسان ذاته، بحيث لا يرى اكتماله في التملك، بل في تنمية الفضيلة والمعرفة. فحين يدرك الفرد أن نقصه الداخلي يُعالج بالعلم والأخلاق لا بالمظاهر والاستهلاك، تنشأ جبهة أخلاقية صلبة قادرة على مواجهة ضغوط الرأسمالية ونفوذها في العالم.

في اعتقادي: إذا كانت التربية هي التي تحدد مضمار الوجود أو الامتلاك، فإن الطاقة المحركة لهذا المضمار هي الشغف. فالشغف، بوصفه الدافع الأول لما يوجّه الإنسان نحو أفعاله، يمكن غرسه منذ نعومة الأظفار في اتجاه العلم والأخلاق. وحينها يصبح الفرد قادراً على ملء نقائصه باستمرار بالمعرفة والفضيلة، ينمو عقله على مقدمات التفكير السليم، ويُتاح له في كبره أن يتخذ قرارات لا يحكمها سوى المنطق. وهكذا يغدو أكثر قدرة على التمرد، أو بالأحرى على تجاهل الضغوط التي تفرضها الذهنية الاستهلاكية الرأسمالية. وقد احسن الشاعر عبدالرحمن العشماوي حين لخّص هذه الرؤية بقوله:

ما قيمةُ الناسِ إلا في مبادئهم…. لا المالُ يبقى ولا الألقابُ والرتبُ

وهكذا يبقى السؤال معلقاً أمام كل واحدٍ منا: هل نختار أن ”نكون“، أم نكتفي بأن ”نملك“؟