آخر تحديث: 20 / 9 / 2025م - 11:54 م

ذِكرَيات مِنَ المُستقبَل البَعيد

هناء العوامي


علم دولة يوروأفريقيا الشرقية.

تقول تسنيم:

نحن العائدون من تيتان لا نحب الشمس.. لقد تعودنا منذ الولادة على الحياة في أرض لا نهار فيها..

من قبل أن نعود.. جعل البشر الشمس أقل سطوعا عن طريق زرع أقمار صناعية كثيرة تدور حولها، تحصد الطاقة، وتحجب جزءا من الوهج، لم نُرِد ان يصلنا الكثير من حرارة الشمس بعد الجفاف الكبير، صديقتي لورا هي أكثر من عَرفتُهم تحسسا من ضوء الشمس، إنها تُدرِّس التاريخ من بيتها عن بعد، ولا تخرج إلا ليلا، مع ذلك أثِق بأنها كانت لتفضل لو كانت تعيش في وحدة سكنية تحت الأرض وليس فوقها، كما يعيش الناس في تيتان والمريخ..

أخي حيدر يحب الشمس، يحب مشاهدة الشروق والغروب، مع أن عليه مشاهدتهما من خلف عازل شبه معتم، أو خوذة سوداء تغطي رأسه بالكامل للحماية.

وأما روزا الشقراء فهي تعيش مع زوجها وطفليها في وحدة سكنية بلا نوافذ، في المنطقة الصناعية من المدينة، ولا تخرج إلا ليلا.

كلنا نعيش في مدينة رئيسية بشمال قارة يوروأفريقيا، قبل مئات السنين كانتا قارتين منفصلتين، قبل الجفاف الكبير وتصحر البحار التي تفصل بينهما.. والتي تحولت لبضع بحيرات ملحية متفرقة.... الآن الجنوب هو أكثر حرارة مما يمكن للبشر تحمله، خاصة أولئك العائدون من تيتان أو المريخ.

فصل الشتاء قصير جدا.. ولا أحد يحبه بسبب الأمطار الحمضية.

يمكن أن تميز المريخيين من لون عيونهم الأرجواني. طفرة حدثت للأجيال الأولى أو ربما عدة طفرات جعلت ألوان عيونهم تتراوح بين كل درجات البنفسجي... راحيل وفاطمة

عيونهما بنية وعسلية، لكن فيهما لمسة من البنفسجي، وفي الضوء الساطع تتحولان إلى اللون الأرجواني.

الآن لا توجد في العالم إلا سبع دول، دولة في تيتان تحمل اسمه، ودولة في المريخ تدعى مارسيا، بالإضافة إلى يوروأفريقيا الغربية ويوروأفريقيا الشرقية حيث أعيش، وثلاث دول صغرى في شمال آسيا، لكن يقال إنه يوجد أماكن نائية يعيش فيها بعض البشر على كوكب الأرض حياة بدائية ولا يتواصلون مع سكان الدول الآنفة الذكر.

اليوم هو الخامس عشر من أبريل، العيد الوطني ليوروأفريقيا الشرقية، فوقنا مكبرات صوت عائمة تصدح بالنشيد الوطني، وراية يوروأفريقيا الزرقاء مع خط أخضر عرضي مموج كأمواج البحر يدل على استمرار الحياة بعد كارثة الجفاف الكبير مع خطين متقاطعين أبيض وأسود يرمزان إلى التقدم التقني، ترفرف الراية في كل سماء كهالة هولوقرامية وهاجة، ترفرف بلا رياح وتنتصب بلا سارية.

في أقصى جنوب يوروأفريقيا، في الجزء غير المأهول من هذا البلد الشاسع، يقع ما يسمى ببئر الزمكان،

البعض يشبهونه بمثلث برمودا.. أنا لا أعرف ما هو مثلث برمودا ولا لماذا يشبه البعض هذا البئر به، كان ثمة نيزك وقع هناك منذ أمد بعيد محدِثاً ذلك البئر، نيزك غير طبيعي ولّد موجة كهرومغناطيسية عالية عند ارتطامه، لكنه لم يؤثر سوى على أميال محدودة حول موقع الارتطام.

يقال أن ذلك النيزك كان جزءا من حُطام مُعدّات تِقَنِيّة أو أقمار صناعية لتِقنية غير بشرية جاءت من خارج المجرة، لكن لا توجد أبحاث تؤكد أو تنفي ذلك، لأن المنطقة تم تصنيفها كمنطقة عالية الخطورة ولم تعد ترسَل أي بعثات استكشافية إلى هناك، خاصة وأن تقنيات دعم الحياة والرفاهية في المناطق المأهولة من الأرض والمريخ وتيتان تكلف الكثير من الوقت والموارد، فلا تريد الدول أن تتحمل مسؤولية من يريد أن يغامر باكتشاف بئر الزمكان ذاك،.

لسوء الحظ فإن أخي حيدر هو من المهووسين به، أتمنى أن لا يتهور كثيرا ويأخذه الحماس إلى حيث لا يعود معظم من ذهبوا.

صديقتي فاطمة تصغرني بعدة سنوات، وهي تحاول دراسة هندسة الذكاء الصناعي، وبما أنه تخصصي فهي تتردد على منزلنا من وقت لآخر لكي أقدم لها المساعدة في دراستها.. تقول إنها تفهم بشكل أفضل حين أنظر إلى عينيها بينما أشرح لها الدروس التي لا تستسيغها عند دراستها عن بعد، وبما أن اليوم إجازة فقد جاءت لتدرس عندي بعض الوقت قبل أن نخرج لنستمتع بالاحتفالات التي ستقام في الساحة الكبرى في وقت متأخر من المساء، لكنها بدت لي محبطة، أعتقد أنها سوف تتخلى عن دراسة الهندسة في نهاية المطاف، كانت تتمالك نفسها بالكاد وبدا لي أنها موشكة على البكاء، قبل أن تعتذر لأنها تذكرت - بحسب زعمها - أن عليها أن تعود للبيت لأن أمها طلبت منها العناية بأخيها الصغير هاشم في تلك الساعة. لكنني أعتقد أنها سئمت الدرس وكرهتني لأنها لم تفهم شيئا..

”قبليه نيابة عني“ قلت لها..

”ولا تشغلي بالك كثيرا بدروس اليوم، إنه خطأي أنا... فقد حاولت تدريسك الكثير في وقت قصير، كان علي تجزئة درس اليوم إلى فقرات أقصر“.

”تعرفين أن هذا غير صحيح“ ردت علي قبل أن تكمل: ”لكن أشكرك على محاولتك، يبدو أنني مشروع فاشل“.

قررت أن لا أستمر في مجاملتها

فقلت: ”أرض الله واسعة، افعلي ما بوسعك، وإذا شعرت أنك لست سعيدة فيما تقومين به، فجدي غيره، أنت إنسانة طيبة وتستحقين كل خير“.

ابتسمَت بحزن وحيتني مغادرة.

لم أرافقها إلى الباب الخارجي لأنني أعدّها من أهل الدار، كما أنني وجدت فقرة في الدرس الذي كنت أشرحه لها تستحق التأمل، وقد جعلتني تلك الفقرة أفكر بتصميم روبوت له خصائص مختلفة عما يوجد في السوق حاليا.. كنت أفكر بعمق حين سمعت صرختها: ”اتركني وشأني“.

خرجت لأرى حيدر واقفا عند الباب وعلى وجهه خيبة الأمل.

”حيدر! وأنا أقول الدنيا نورت! متى عدت إلى البيت؟“.

نظر إليّ فاحمر وجهه قائلا ”ألن توبخيني لأنني أغضبت صديقتك أولا؟“.

ابتسمت له: ”أنا أعرف أخي، وهو إنسان عاقل ومهذب ولن يقدم على أي أمر قد يحرجني“، قبل أن ابتسم له بخبث وأكمل: ”كما أنني لاحظت منذ وقت طويل أنك معجب بها“..

أصبح وجهه الآن كالطماطم، لدرجة أنني فكرت بتقطيع بعض السلطة، قلت وأنا أتجه إلى المطبخ: ”تعال وساعدني في تحضير العشاء“.. بينما صاح هو: ”هذا ليس صحيحا، كل ما فعلته هو أنني سلمت.....“.

”إنها في مزاج سيئ الآن لأن درس الهندسة كان صعبا“ قاطعته بهدوء.

يبدو أن ذكر الهندسة قد غير مزاجه، فقد أخذ يتكلم بحماس عن صديقه الذي كان مُعتقدا أن الهندسة صعبة ثم لم يعد كذلك.

صديقه الذي علِمت أنه ذهب معه في اليوم التالي ليراقبا البئر.

”هل جُننت؟“ قلت وأنا أصيح في وجه صورة الهولوقرام المشوهة لأخي حيدر، والتي جعلته يبدو مثل كائن من الشياطين، هذه صورة لا يريد أن تراها فاطمة بالتأكيد..

”إنه يبدو وكأن الشمس غارقة فيه“.. قال لي بينما كانت صورته تتلاشى..

”سوف نلقي نظرة سريعة فقط ثم نعود“، أكمل قبل أن تختفي صورة الهولوقرام تماما.

ثم سمعت صوته بدون صورة يأتي من اللامكان قائلا: "أراهن أنها سوف ترفضك بسبب إسمك فقط!

ههههههههه"

.... كان واضحا أن تلك الجملة الأخيرة لم تكن موجهة لي، لقد كان يمازح صاحبه، صاحبه اسمه ”قسورة“.

أسقِط في يدي... هل أخبر أمي؟ هل أتصل بالأمن؟ لا أريد تضييع دقيقة واحدة، قد يكون حيدر وصديقه في خطر في هذه اللحظة.. هل هو يهرب من صَدّ فاطمة له؟ ألِهذا قرر خوض هذه المغامرة المجنونة؟

استدعيت بهدار، الروبوت المتطور الذي أشرفت على صنعه، وأرسلته خلفهما، بعد إجراء تعديل على برمجته يسمح له بالذهاب إلى تلك المنطقة المحظورة.

إنه يستطيع الحركة أسرع من البشر مهما كانت وسيلة انتقالهم.

لكنني حتى اليوم التالي لم أتمكن من التواصل معه ولا معهما.

”أين حيدر؟“ قفزت من مكاني حين باغتني سؤال أمي عنه، لكنني قررت عدم إخبارها بمغامرته المجنونة المفاجئة قبل أن أتيقن من مصيره. وهي لم تكرر السؤال.

أما أنا فانشغلت بدراسة كل ما كتب وقيل عن بئر الزمكان ذاك. قبل أن يظهر بهدار على باب بيتي فجأة بوجه مصدوم وتعبير أقسم أنني لم أره على وجه روبوت من قبل قط.

نظرنا إلى بعضنا في صمت بضع لحظات.

ثم قال لي: ”لقد اختفيا فجأة وكأنهما وصلا إلى أفق الحدث“.

نظرت إلى عينيه وخطر لي أنه لا يملك دموعاً. فقط تنقصه الدموع ولن يفرق أحد بينه وبين البشر.

ثم نظر إلى الأرض قائلا: ”لقد ذابا وحسب“.

ذابا أم اختفيا؟ يبدو لي أن هذا الروبوت لا يعرف ما يتكلم عنه، ربما أفسدت الموجات الكهرومغناطيسية العالية في تلك المنطقة برمجته.

”أنا آسف لأنني خيبت ظنكِ“ قال لي ذلك، ثم مال رأسه جانباً وتعطل... ولم أتمكن أبدا بعد ذلك من إصلاحه أو إعادة تشغيله.

كوكب الأرض

يوروأفريقيا الشرقية

سنة 2751 بعد الميلاد.