مدينة سراييفو
في شهر فبراير عام 1995، تم إسكات صوت البنادق بقرار دولي بعيد فجيعة مذبحة سربرنيتسا بالبوسنة. وقد تم بعد إعلان وقف إطلاق النار «اتفاقية دايتون»، السعي لإعلان استقلال جمهورية البوسنة والهرسك بمكون إسلامي هو الأعلى نسبيًا من باقي المكونات الدينية الأخرى للسكان، وبحكم فيدرالي لعدة أقاليم ذات مكونات مختلفة «سلوفين، كروات، صرب».
حُكمت منطقة البلقان من قبل العثمانيين «1463-1878» ثم الإمبراطورية النمساوية - المجرية «1878-1918». بعد انهيار الدولة العثمانية وسيطرة الإمبراطورية النمساوية المجرية، تم اغتيال ولي عهد النمسا فرانتس فرديناند في مدينة سراييفو على يد غافريلو برينسيب، على الجسر اللاتيني الشهير، وهو الحدث الذي فجّر الحرب العالمية الأولى. بعد الحرب العالمية الأولى «1918»، تأسست مملكة عُرفت باسم مملكة الصرب والكروات والسلوفينيين، ثم تغيّر اسمها إلى مملكة يوغسلافيا عام 1929.
يوغسلافيا بلد لامع وقوي ومؤثر في فترة زمنية غابرة بالستينات من القرن الماضي بقيادة جوزيف تيتو، وتفتت بعيد سقوط الاتحاد السوفيتي إلى سبع دول، وبُنيت على أساس العرق والدين عام 1992 م. وبعد حروب طاحنة متعددة كان أقساها وأطولها حرب استقلال البوسنة والهرسك الذي تم إعلان نضوجه عام 1995 م. البوسنة والهرسك الحالية هي فسيفساء سكانية: مسلمون بوشناق «حوالي 44%»، صرب «31%»، وكروات «17%».
عند تصفح صور وثائقية للبوسنيين في حقبة الحصار الطويل لمدينة سراييفو، والذي امتد لفترة سنوات «5 أبريل 1992-29 فبراير 1996»، ويُعتبر ذلك الحصار أطول فترة حصار لعاصمة في العصر الحديث، ترى يومذاك وجوهًا شاحبة وأبدانًا بالية وجوعًا قاسيًا وموتًا مبرمًا واغتصابات جماعية ومذابح متعددة ومقابر جماعية متناثرة وضعفًا مستطيلًا في كل أرجاء البوسنة والهرسك، وآثار الحرب قائمة إلى الآن؛ فضلًا عن الشعور الذي انتاب البوسنيين آنذاك بالخذلان من كل أقطار الدنيا في تلك الحقبة.
وعند زيارتي في شهر أغسطس من هذا العام «2025 م» للعاصمة سراييفو، لمنطقة مجاورة لمتحف الحصار الموجود حاليًا في قلب مدينة سراييفو على امتداد شارع Banka, وجدت صورًا مختلطة بمظاهر مختلفة ومتناقضة. فصورة من جهة تنطق بالشباب المملوء بالحيوية وحب الحياة ويريد أن يتناسى الماضي ويذوب في كل شيء فيه إثارة جنسية جسدية عبر لغة الجسد والأزياء والاستعراض بالمفاتن والإثارة؛ وبعضها ينطق بالأناقة والتفاخر بالملبوس والمركوب والمأكول والمظاهر المادية الباذخة. وتمتد في أحد مظاهرها لتنطق بالبحث عن الالتصاق بمن لديه مال وقوة ونفوذ وسطوة.
وصورة أخرى تنطق بلسان كبار السن ومن عاصر وما زال يعيش الصدمة لتلكم الأهوال بالقول خجلًا: ما زلنا موجودين وإن هُمشنا في النظام الدولي الجديد. وصورة ثالثة عن شباب وطن يتطلع للهجرة لدول أوروبية صناعية كألمانيا وأستراليا وغيرها؛ تارة خوفًا من أن يرتد الوضع لما هو أسوأ مما كان عليه عام 1992 م، وتارة بحثًا عن لقمة عيش كريمة، وتارة كفرانًا بكل شيء وُلد وترعرع فيه نتيجة لغسيل دماغه أو ضياع هويته أو وقوعه تحت تأثير الصدمات الحضارية.
يبدو أن حمى السيطرة أو انتزاع الثروات من أيدي ومن تحت أقدام أبناء الأوطان المسالمين في بعض القارات حول العالم ظاهرة ممتدة عبر الزمان، وهذا يؤكد حقيقة الآية الكريمة:
﴿ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرِّ وَالبَحرِ بِما كَسَبَت أَيدِي النّاسِ﴾ [الروم: 41]
وإن بصيص الأمل يزداد انعقادًا بأنه بيد الله الواحد الأحد في رجحان كفة العدالة ونسف الظلم. توظيف التكنولوجيا والذكاء الصناعي في عسكرة الأجندات الدولية يؤكد الواقع في معظم الصراعات الدائرة بالماضي والحاضر بحقيقة أن الإنسان ظلوم جهول عجول، كما قال تعالى:
﴿وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: 72]
﴿وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا﴾ [الإسراء: 11]
﴿إِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ﴾ [الإسراء: 67]
﴿إِنَّ الإِنسَانَ كَانَ قَتُورًا﴾ [الإسراء: 100]
الحرب العالمية الأولى انطلقت من شرارة اغتيال السير فرانتس فرديناند على الجسر اللاتيني بقلب المدينة القديمة لسراييفو البوسنية. وواقع كل الحروب يبدأ بشرارة. بعد زيارة خاطفة لتلك المنطقة، والتدقيق في سلوك وتفاعل وتشنج وتعبيرات الأهالي في منطقة السوق القديم وما جاورها من متاحف ومساجد وكنائس، يتوقع البعض أن ما يعيشه الناس هناك في بعض مناطق البلقان وما يشبهها من سلام شبه هش هو حالة نار تحت الرماد، وقد تنطلق جولات صدام أقوى وأعنف أو محدودة يومًا ما إن لم تُرسخ قواعد تعامل صحية وسلوكيات استقرار قوية بين سكان تلك البقعة.
1 - المواطنة العادلة قناعة وعمل دؤوب وحقوق مصانة وليست شعارات طنانة.
2 - حفظ الحقوق للجميع وتكافؤ الفرص وتحمل المسؤولية والمساواة أمور أساسية لتنظيم الأمور.
3 - القبول بالتنوع الفكري والعقائدي كقدر لا مفر منه لأي مجتمع بشري، ولا يحق لأحد أن يستحقر الآخرين أو يفرض سرديته العقائدية/التاريخية عليهم، كما قال تعالى:
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 93]
لا زالت كثير من الأقوام تتلمس أطواق نجاة: توازن القوى أم توازن الرعب، أم تفعيل قانون عادل، أو تشخيص وتحديد البوصلة الأخلاقية، أو إرساء القيم المشتركة، أم الاعتماد على تحالفات دولية، أم مجموع ذلك كله؛ يعتبر أطواق نجاة أو شيئًا آخر.
4 - بالأرقام والإحصائيات وُجد أن تركيبة مواطني أي دولة هي نسيج من مكونات عدة لنِسب مختلفة، وعليه يجب غزل سجاد وطني فسيفساء متناغمة وتجريم أي موجات تحريض أو كراهية أو دعوات اقتتال داخلي.
7 - نفق الحياة: لك أن تتخيل سكان مدينة كاملة عاشوا لسنوات على إمدادات مهربة من خلال ”نفق الحياة“ الذي كان طوله لا يتجاوز ثمانمائة متر فقط، ولم يكتشفه الصرب مع السيطرة المحكمة على كل الجبال المحيطة بسراييفو ومع كثرة المتعاونين معهم خلال فترة الحصار لمدينة سراييفو. والآن ”نفق الحياة“ ومنزل السيدة شيدا كولار وصورة السيد بايرو كولار وأمه شيدا أصبحوا مزارًا ومعلمًا سياحيًا ملهمًا لكل إنسان شريف مؤمن ببناء الأوطان وحفظ كرامة الإنسان.
1 - عند اجتماع حرفي ”je“ باللغة البوسنية فإنهما يُنطقان ”يِ“، ولذا لا تستغرب إذا سمعت اسم العاصمة يُنطق سراييفو.