آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:16 ص

ضاد Vitamin..

ياسر بوصالح

شاع في الخطاب المجتمعي مصطلح ”فيتامين واو“، كنايةً ساخرةً عن ”الواسطة“ حين تُستغل العلاقات أو النفوذ لتجاوز الاستحقاق، فيُمنح غير المؤهَّل ما يُحرَم منه الأكفاء. وقد ترسّخ هذا المفهوم بوصفه مرادفًا للفساد الوظيفي وانتهاك العدالة، حتى بات من المسلَّمات في كثيرٍ من الأحاديث اليومية.

لكن السؤال الجدير بالتأمل: هل تُدان ”الواسطة“ في جميع تجلياتها؟

ليس بالضرورة. ففي بعض صورها، قد تكون مظهرًا من مظاهر الرحمة الاجتماعية إذا اقترنت بالعدل والنزاهة. وقد أرشدنا أئمتنا إلى هذا المنحى الإيجابي، حيث ورد عن الإمام الصادق :

«المعروف زكاة النِّعَم، والشفاعة زكاة الجاه، والعلل زكاة الأبدان، والعفو زكاة الظفر، وما أُديت زكاته فهو مأمون السلب» [1] 

فالشفاعة، وفق هذا المنظور، زكاةٌ تُؤدى عن الجاه، ما دامت ملتزمةً بمقاييس الإنصاف ونية الخير وشرائط العدل. وبهذا، تتحول ”الواسطة“ من أداة تمييز إلى شفاعة تُوظّف في خدمة الحق، لا لتجاوزه، بل لتفعيله بأدوات الرحمة، متى اقترنت بالحكمة وخُلق المسؤولية.

وبعد هذا الاستبصار، تبرز ضرورة تفعيل فيتامين آخر في حياتنا اليومية، وهو «فيتامين ضاد»، كنايةً عن كلمة ”ضد“ هذا الفيتامين لا يُباع في الصيدليات، بل يُستخرج من تجربةٍ إنسانيةٍ تُصقل النفس بمواجهة الرغبة وكبح جماح الاعتياد.

فالإنسان بطبعه يميل إلى الشبع والتلذذ، وشريعتنا تؤكد على ألا ننسى نصيبنا من الدنيا، لكنها أيضًا تدعو إلى التوازن وترويض النفس. ومن ذلك قول الإمام علي :

«نِعْمَ العونُ على أسر النفس وكسر عادتها: التجوّع» [2] 

وقول النبي الأعظم ﷺ:

«نور الحكمة الجوع، والتباعد من الله الشبع... لا تشبعوا فيُطفأ نور المعرفة من قلوبكم.» [3] 

فالجوع هنا ليس حرمانًا، بل منهجٌ تربويّ يعيد للنفس توازنها، ويكسر سطوة العادة التي تُطفئ وهج التأمل وتُخمد نور المعرفة. إنه ”الضد“ الذي يُثمر إدراكًا، كما تُولد الحكمة من المفارقة، ويُستنبت النضج في أرض التقابل.

وفي سياقٍ موازٍ، ورد عن الإمام علي :

«إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر النعمة على عبده» [4] 

وعن الإمام الرضا :

«صاحب النعمة يجب عليه التوسعة على عياله» [5] 

فاستعمال النعمة محمودٌ إذا اقترن بالشكر والتوسعة، ولكن ”فيتامين ضاد“ يُذكّرنا بالوجه الآخر: التهيؤ لاحتمال الزوال، وتجريب الخشونة كتمرينٍ نفسي، كما في القول المأثور:

«اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم.» [6] 

السير بين النعمة والخشونة، بين السعة والضد، هو ارتحالٌ أخلاقي يُعوّد النفس على الاتزان، ويرفعها عن الغفلة، ويُهيّئها لتقلّبات الحياة دون انكسار.

وهنا تلوح إضافة رمزية عميقة، يمكن استخلاصها من الحديث القدسي:

«إني وضعت أربعة في أربعة مواضع، والناس يطلبونها في غيرها فلا يجدوها أبدًا:

وضعت العلم في الجوع والغربة، والناس يطلبونه في الشبع والوطن، فلم يجدوه أبدًا...» [7] 

فيتجلّى أن نور العلم لا يُستخرج من مواطن الألفة والراحة، بل من مجاهدة النفس والانفتاح على الغربة والتجربة. وذلك عين ما يدعونا إليه ”فيتامين ضاد“ في زمن الشبع الفكري والكسل النفسي.

ويتجلّى ”فيتامين ضاد“ حتى في عالم الدواء، فكثيرٌ من الأعشاب ذات الطعم المُرّ—كالقسط الهندي، والشيح، والعلقم، والصبر—تحمل خواص علاجية فائقة. وكأن هناك بعدًا رمزيًا لهذه الحقيقة: فكما لا تُهذّب النفس إلا بالمكابدة، لا يُعافى الجسد إلا بالتقشّف الطعمي.

أما السكر، بطعمه الحلو، فقد أصبح فتنة البدن، بابًا إلى السمنة والسكري وسائر العلل. وهنا ينعكس البُعد العلوي للحكمة التي تضيء مسار التوازن:

«مرارة الدنيا حلاوة الآخرة، وحلاوة الدنيا مرارة الآخرة.» [8] 

كأنهم يُوظفون ”فيتامين ضاد“ بوصفه منهجًا لا لترويض الجسد وحده، بل لإيقاظ الفكر وتفتيق البصيرة، وإعادة الاعتبار لفنّ المجابهة بوصفه طريقًا إلى الحكمة والنضج.

[1]  مستدرك سفينة البحار - الشيخ علي النمازي الشاهرودي - ج 4 - الصفحة 292

[2]  عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - الصفحة 494

[3]  مكارم الأخلاق - الشيخ الطبرسي - الصفحة 150

[4]  الكافي - الشيخ الكليني - ج 6 - الصفحة 438

[5]  كشف الخفاء - العجلوني - ج 1 - الصفحة 68

[6]  العلم والحكمة في الكتاب والسنة - محمد الريشهري - الصفحة 252

[7]  بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 78 - الصفحة 453

[8]  بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 70 - الصفحة 131