النهر والإنسان
بعض الدول تكثر فيها الجبال الشاهقة، وبعضها الآخر تكثر فيها البحيرات أو السهول أو الصحاري الشاسعة، والبعض منها تكثر فيها الأنهار الجارية. عندما يشاهد الإنسان الأنهار الجارية الجميلة، تنبعث في نفسه بهجة طيبة ومشاعر سامية وراحة نفسية متدفقة. وأستحضر هنا كلمات قيلت في حق الأنهار الجارية النظيفة بقول أحدهم: إنَّ للنهر الجاري صفات عديدة، ومنها:
1. يبعث النهر في نفس ناظره الشعور بالسعادة والراحة كلما نظر إليه.
2. يبعث النهر في نفس الناظر إليه شعور الهيبة والعظمة وقوة خالق الطبيعة وصانعها والإصرار في مجرى النهر لبلوغ مصبه.
3. يلهم النهر لناظره شعور المضي والإقدام في الطريق وتجاوز العقبات كالصخور واكتساح الشوائب والتحديات وحفر الأخاديد دون كلل أو ملل.
4. يسقي ويروي النهر شارب ماءه ويطفئ العطش بماء نظيف عذب.
5. سبحان الله، النهر حيثما حلّ ترك على ضفتيه أثرًا طيبًا حيث تدب الحياة بالاخضرار تارة والأنشطة الاقتصادية تارة، والعطاء للخيرات ومرافئ إدرار الرزق واستلهام روح العطاء.
ذلك الشعور راودني عندما تجولت سائحًا في ربوع بعض الدول الأوروبية الغنية بعدد الأنهار.
وشخصيًا أستنطق من الطبيعة والحيوانات والجمادات ما ينفع في استلهام جوانب الخير واستقراء وسائل بلوغ الأحسن في الحياة. وشخصيًا أعتبر أصحاب النفوس الطيبة والمبادرات النافعة والابتسامات العريضة مصدر إلهام حيث يسقون الأرواح التي تجاورهم بطيبتها، ويبعثون الحياة في قلوب من عرفوهم ويلهمون من سمع بجميل صنائعهم و… و….. فهم كالنهر الجاري المتدفق النظيف معينه وكالنجوم لأهل الأرض. فكما الأنهار لها هيبتها التي أودعها الله فيها، كذلك بعض الرجال الطيبون الأوفياء من صُنّاع الجميل وأهل الأثر الطيب.
تلكم الصفات التي تحملها بعض النفوس ذات السمات السامية، ظلت وتظل وستظل شاهدًا على أن في أواسط مجتمعاتنا وفي الكثير من المجتمعات المؤمنة الغيورة بأن الدنيا ما زالت بخير ما دام فيها رجال أوفياء من أهل المبادرات وأهل العطاء.
الآباء «الأمهات» الأوفياء، الإخوان «الأخوات» الأعزاء، الأصدقاء الصادقون، الجيران الطيبون، الزملاء الفاعلون، الإداريون النشيطون، النشطاء الاجتماعيون الأمناء، المبادرون الطاهرون، التجار الورعون، الأبناء البارون، الأتقياء المؤمنون الصالحون هم أقرب الأشخاص لمصاديق العطاء النقي والخالي من المن والأذى:
﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ [الإنسان: الآية 9].
فلأهل العطاء والبذل والكرم والأخلاق السامية منا جميعًا أسمى عبارات الشكر والعرفان والثناء والتمجيد والاحترام، ونسأل الله أن يبارك في أعمارهم وصحتهم ودنياهم وآخرتهم.
عند الاحتفاء والتمجيد لشخص ما فإن العقلاء وأهل الحكمة يمجدون السمات والأعمال والإنجازات التي عملها ذاك الشخص / الأشخاص لا أسماءهم. نعم، يتحول الاسم بعد ذاك إلى أيقونة رمزية لخصال وسمات محمودة وملهمة بناء على الثبات عليها. والأنبياء والأولياء تجسيد لمكارم الأخلاق وذروة التضحية والعطاء والسمو، ولذا الأمم والشعوب عبر التاريخ تهتدي بهداهم وتستلهم من تضحياتهم. وهكذا حفاوة مع ذِكر الأفعال والإنجازات تكون محفزًا للآخرين بالاقتداء والسعي على أثرهم للحصول على نيشان من نياشين الشجاعة والكرم والتضحية والمبادرة والخدمة والوفاء والأمانة والإخلاص والصدق والكرم والشجعان والصمود والإيثار والنقاء.
مع شديد الأسف، بعض أبناء أو أحفاد المكرّمين سواء عبر التاريخ أو حديثًا يسيئون توظيف أسماء أجدادهم وآبائهم ونسلهم ويفسدون كل تلكم الإنجازات بسوء التصرف وسوء الاستغلال وتكبرهم على الآخرين وازدرائهم للآخرين بدعوى ارتقاء فصيل دمهم!! والواقع الذي يجب أن يُحتكم إليه:
إن الفتى من يقول ها أنا ذا
ليس الفتى من يقول كان أبي
بيت شعري منسوب للإمام علي بن أبي طالب.
في زمننا الحالي، ومع تزايد مستوى استغلال الأسماء اللامعة من قبل البعض وتجييرهم لمصالح شخصية، قد يقول أحدهم: ”أنا من ذرية رسول الله ﷺ“، أو يقول آخر: ”أنا ابن التاجر الفلاني المشهور بمواقفه الرجولية الشجاعة“، أو ينتحل أحدهم اسم شخصية محببة للنفوس أو يدّعي انتسابه لعائلة مشهورة بالكرم تكسبًا منه من تعاطف الآخرين معه.
وجب على أبناء كل مجتمع تشخيص تلكم الحالة وأصحابها وكشطها ومحاربتها ومحو أولئك المنتحلين المتكسبين وفضحهم؛ لأن ذلك يعد أمانة وصيانة اجتماعية وكذلك وفاء لأصحاب العطاء وفضحًا للمستغلين وحماية لعامة الناس من الاستغلال العاطفي المتكاثر.
﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَ?لِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَ?لِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ [الرعد: الآية 17].
إهمال العقلاء لعملية كشط الزَّبَد يعني تكاثره، وبذلك تختلط المعايير وتضطرب المفاهيم ويُلبس الحق بالباطل. أهل القلم الصادق والكلمة المسؤولة والوطنية الحقة يحفظون الوفاء لأهل وطنهم ومجتمعهم بصدق الحديث وحمل الأمانة وتسهيل أمور الناس وتجذير السمات الصادقة.