سليط اللسان
يكفي أن يُذكر اسم أحدهم حتَّى ترتسم على الوجوه علامات الضَّجر، وينفر السَّامعون قبل أن يروه أو يتعاملوا معه، وكأنَّ الاسم وحده صار جرس إنذار. ولنا أن نتخيَّل موقفًا يوميًا: حين تقع مشكلة ما، فيقال: إنَّ فلانًا أو فلانة طرفٌ فيها، فيتنهد الحاضرون مباشرة: ”أووووه… الله يعينكم عليه!“. إنَّه سليط اللسان، الذي حوَّل الكلام من وسيلة تواصل إلى سلاحٍ يُرهِق الآخرين ويستنزف أعصابهم.
ولم يتوقف أثره عند حدود المجتمع أو العمل؛ بل امتد إلى داخل الأسرة نفسها؛ حيث يضيق به القريب قبل البعيد، فيتحاشى الجميع الجلوس معه أو النقاش معه في أي شأن. وهنا لا نقصد الرَّجل وحده، فكما يوجد الرجل طويل اللسان، هناك أيضًا المرأة سليطة اللسان، وكلاهما يشكِّلان عبئًا على محيطهم ويُضعِفان الرَّوابط الإنسانيَّة التي يفترض أن تُبنى على المودَّة والاحترام.
إنَّ وصول المرء إلى صفة طويل اللسان لا يحدث بين ليلة وضحاها؛ وإنَّما هو نتيجة تراكمات وسلوكيات متكررة؛ فجزء كبير من السَّبب يعود إلى الشَّخص نفسه، حين يطلق لسانه من دون ضابط، ولا يراجع كلماته قبل أن تخرج، فيستسهل التَّجريح والسُّخريَّة، ويظن أنَّ رفع الصَّوت أو قسوة العبارات نوعٌ من القوَّة والهيبة. ومع مرور الوقت، يتحوَّل هذا السُّلوك إلى عادة راسخة يصعب عليه التَّخلي عنها.
لكن المسؤوليَّة لا تقع عليه وحده؛ فالنَّاس أيضًا ساهموا في تكريس هذه الصِّفة، إمَّا بصمتهم أمام إساءاته تجنبًا للصدام، أو بضحكهم على تعليقاته الجارحة، أو بمجاملةٍ ظاهرها سلامة البال وباطنها ضعف المواجهة. وبذلك، يجد طويل اللسان نفسه في موقعٍ يُشجَّع فيه ضمنيًا على الاستمرار، حتَّى يظن أنَّه مقبول أو حتَّى «محبوب»، بينما في الحقيقة هو منبوذ، والنَّاس يتفادونه ما استطاعوا.
وهذا الأمر جعله في نظر نفسه بطلًا خارقًا؛ لكنه في الحقيقة بطلٌ وهمي. يعيش في داخله شعورًا زائفًا بأنَّه الممسك بزمام الأمور في عائلته أو مجتمعه، وأنَّ كلمته لا تُكسر، وصوته لا يُعارَض، وأنَّ الجميع يهابونه ويتجنبون الاصطدام به. غير أنَّه لا يدرك أنَّ هذه الهيبة المزعومة هي خوف ونفور، وأنَّ النَّاس يفضِّلون الهروب من مواجهته على الدُّخول في حوارٍ عقيم لا ينتهي إلَّا بمزيد من الأذى.
إنَّ أطول ما يخلِّفه طويل اللسان وراءه ليس صوته العالي؛ بل الشَّرخ العميق الذي يحدثه في النُّفوس والعلاقات؛ فالمجتمع الذي يضم في صفوفه مثل هذه الشَّخصيَّة يصبح أكثر توترًا وأقل انسجامًا؛ إذ يفقد النَّاس رغبتهم في النقاش الحر، ويتحوَّل الصَّمت إلى وسيلة دفاعية يتخذها الكثيرون لتجنب الإهانة أو الاستهزاء. ومع الوقت، يسود مناخ من النُّفور المتبادل يقتل روح التَّعاون والتَّكافل.
وأمَّا داخل الأسرة؛ فالأثر أشدُّ قسوة؛ فكيف تستقر البيوت إذا كان أحد أفرادها لا يعرف للسانه ضابطًا؟ سرعان ما تنطفئ المودة بين الأزواج، ويبتعد الأبناء عن والدٍ أو والدةٍ يرون في كلامه قسوة أكثر مما يرون فيه حنانًا. وحتَّى الأقارب يفضّلون القطيعة على مجالسة شخص يحوّل الجلسة العائليَّة إلى ميدان جدال وتجريح. ومثال ذلك حين تقع مشكلة ويُراد لها حل، فيأتي أحدهم ليتوسط ويعرض الأمر على أخٍ أو أبٍ أو قريبٍ، فيكون الرَّد المباشر: ”هذا سليط اللسان، لا أستطيع الحديث معه ولا التفاهم معه.“ فكيف بهذا الشَّخص الذي أقرب النَّاس إليه يتحاشى الحديث معه!! وهكذا يغلق الباب أمام أي محاولة للإصلاح، وتتعقَّد الخلافات بدل أن تُحل.
ولم يتوقف الأمر عند من يخالطونه يوميًا؛ بل امتدت سمعته لتسبقه إلى المجالس البعيدة، حتَّى صار ذكر اسمه كافيًا ليرسم صورة سلبيَّة في الأذهان؛ فالجميع يعرف عنه لسانه السَّليط، ومن لا يعرفه شخصيًا يكوّن انطباعه الأوَّل من خلال هذه السُّمعة السَّيئة التي طغت على كلِّ جانب آخر من شخصيته. وهكذا، يصبح الحديث عنه مقترنًا دومًا بالتَّحذير والتَّنفير.
التَّعامل مع سليط اللسان يحتاج إلى قدر كبير من الحكمة. فتركه من دون توجيه أو ملاحظة يشجعه على التَّمادي، ومواجهته بالعنف لا تجلب إلَّا مزيدًا من العناد والتَّأزم. والطَّريق الأجدى هو أن يُقابَل بكلمة هادئة وحازمة في آنٍ واحد، تُشعره بأنَّ لسانه لا يرعب أحدًا، وأنَّ الآخرين قادرون على ضبط الحوار من دون الانزلاق إلى مستواه. وأحيانًا يكون التَّجاهل المقصود هو الرِّسالة الأبلغ، إذ يدرك أنَّ كلامه لم يعد يجد من يصغي إليه أو يضخّم أثره.
وأما داخل الأسرة أو بين الأصدقاء، فإن تكاتف المحيطين به أمرٌ ضروري، فلا يصح أن يضحك البعض على تعليقاته الجارحة فيزيدونه غرورًا، بينما يعاني آخرون من إساءاته. بل ينبغي أن يُشعروه بوضوح أن أسلوبه مرفوض وغير مرحّب به. وفي بعض الحالات، قد تكون الكلمة الصَّادقة من شخص قريب وحريص هي المنبّه الحقيقي الذي يوقظه من وهم البطولة ويجعله يعيد النَّظر في نفسه.
وفي النِّهاية، يبقى العلاج الأصيل بيد الشخص نفسه؛ إذ عليه أن يراجع لسانه قبل أن يطلقه، وأن يدرك أنَّ الهيبة الحقيقيَّة لا تُبنى على التَّجريح؛ بل على الاحترام، وأنَّ الكلمة الطيِّبة قادرة على أن تكسبه قلوب من حوله، بينما الكلمة الجارحة لا تحصد إلَّا نفورًا ووحدة.
سليط اللسان يظن أنَّه يفرض احترامه بالكلمة الجارحة، بينما هو في الحقيقة ينسف جسور المحبَّة من حوله ويترك وراءه قلوبًا مثقلة بالنفور. ولو أدرك أنَّ الكلمة الطيِّبة ترفع من قدره أكثر من أي صوتٍ عالٍ، لوفّر على نفسه وأهله ومجتمعه عناء كثيرًا؛ فالحقيقة أنَّ البطولات لا تُقاس بحدة اللسان، وإنِّما بقدرة الإنسان على ضبطه.