آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:17 ص

وجوه لا تنسى: المعلّم الذي ربّى أجيالًا بصمت ”علي آل غزوي“

حسن محمد آل ناصر *

في زمنٍ كثُر فيه الحديث عن التعليم وتراجعت هيبة المعلّم يبقى بعض الأسماء نورا لا يُطفأ وسيرة لا تغيب عن الذاكرة وحضورا يتجدد كلما مرّ طالبٌ على درب مضاء بخُلق وتوجيه، ومن بين هؤلاء يبرز اسم الأستاذ علي أحمد آل غزوي لا باعتباره مجرد معلم أمضى ثلاثة عقود في الفصول الدراسية بل لأنه مدرسة أخلاق وسلوك تنقّل بين المراحل والمهام دون أن يُفرّط في إنسانيته أو يتنازل عن رسالته التربوية النبيلة.

لم يكن صوته يوما عاليا لكن أثره كان أبعد من أن يُقاس بالكلمات ولم يحمل العصا لكن طلابه ساروا خلفه بمحبةٍ واحترام، ربّى أجيالا واحتضن أسرة وبرّ والدين وخدم مجتمعا وزرع خُضرة في الأرض والقلوب معا، هذا الكلمات ليست مجرد توثيق لسيرة رجلٍ تربوي بل هو وفاءٌ لنهجٍ تربوي أصيل نفتقده في كثير من زوايا التعليم اليوم، هو قراءة في تفاصيل شخصيةٍ عاشت بهدوء لكنها تركت ضجيجا من المحبة في قلوب من عرفوها.

يُعد الأستاذ علي أحمد علي علي آل غزوي من الأسماء التربوية التي تركت بصمة مميزة في ميدان التعليم بفضل شخصيته الهادئة ورسالته التربوية المتزنة وسيرته العطرة التي امتدت على مدى أكثر من ثلاثة عقود في خدمة العلم والجيل.

ولد عام 1365 هـ في حيّ السدرة ”المسورة“ في بلدة القديح قرب مسجد السدرة ورغم أن تاريخ ميلاده المسجّل هو اليوم الأول من شهر رجب إلا أن بعض المصادر العائلية تشير إلى احتمال عدم دقة اليوم والشهر مع ثبوت السنة، نشأ في كنف والدين كريمين وكان الابن الوحيد بين شقيقات ثلاث، يحتل الترتيب الثاني في العائلة وكان الأقرب إلى قلب والديه والمحور الذي نُسجت حوله قيم التربية والمسؤولية.

البدايات الأولى والتأسيس العلمي

كانت والدته الحاجة نجيّة بنت عبد الله آل غزوي أول من غرس فيه بذور المعرفة حيث علّمته القرآن الكريم في صغره، وهو ما شكّل أساسا قويا لمسيرته التعليمية لاحقا، ثم التحق بالكتّاب الذي كان يشرف عليه السيد علي السيد محمد الخضراوي، وهناك تعلم الكتابة والقراءة على النهج التقليدي المعروف.

في عام 1379 هـ ومع افتتاح مدرسة سلمان الفارسي الابتدائية بالقديح خضع لاختبار القبول فاجتازه بتفوق أهّله للانتقال مباشرة إلى الصف الثاني الابتدائي، متجاوزا الصف الأول، وهي إشارة مبكرة على نبوغه وجديّته في التعلّم، أنهى المرحلة الابتدائية عام 1384 هـ ثم التحق بمعهد المعلمين في الدمام حيث واصل دراسته إلى جانب مجموعة من زملاء الساحة التعليمية المميزين، مثل المرحوم عبد الكريم الحليلي، والمعلمين إبراهيم أنصيف وجعفر المرهون.

المسيرة المهنية حضور بلا ضجيج

بعد تخرجه من المعهد عام 1387 هـ، عُيّن معلما في حفر الباطن حيث بدأ تدريسه للصف الثاني الابتدائي لمدة سنة، ثم انتقل إلى الثقبة للعمل في الجانب الإداري كمراقب تربوي لمدة ثلاث سنوات، وفي تحول رمزي عميق عاد إلى مدرسته الأولى سلمان الفارسي بالقديح، لكن هذه المرة كمعلم لا كطالب فدرّس فيها سبع سنوات في الفترة الصباحية وشارك في برنامج محو الأمية لثماني سنوات مساءً.

لم يتوقف عن تطوير نفسه فالتحق بمركز الدراسات التكميلية بالرياض لمدة عامين ثم عاد بعدها ليواصل تدريسه ومدرس وإداريا في مدرسة عبادة بن الصامت حتى تقاعده بعد مسيرة امتدت 33 عامًا في خدمة التعليم.

في الميدان التربية أولا

امتاز الأستاذ علي بأسلوبٍ تربوي فريد أساسه الاحترام والرحمة لا القسوة أو التوبيخ، لم يُعرف عنه في مسيرته التعليمية أن رفع صوته على طالب أو لجأ إلى العقاب البدني بل كان يؤمن بأن الطالب يخطئ كما يخطئ أي ابن، والمهم هو التوجيه لا العقوبة، عبارته المتكررة ”أولادنا يخطئون كما يخطئ أولادكم“ كانت تعبيرا صادقا عن رؤيته الإنسانية للتعليم.

لم يتغير سلوكه حتى حين تولّى مهاما إدارية فبقي متواضعا يرى في نفسه خادما للطلاب والمعلمين لا آمرا عليهم، هذه القيم العميقة جعلته محبوبا من طلابه الذين ما زالوا يذكرونه حتى اليوم بكل احترام وتقدير.

في البيت القدوة الصامتة

في محيطه الأسري كان أبا ومربّيا من طراز رفيع لم يكن يستخدم التوبيخ بل ربّى أبناءه على الحوار والاستماع وشجعهم على طلب العلم ووفّر لهم بيئة نفسية صحية قائمة على الاحترام والتفاهم، نصائحه كانت تأتي بهدوء دون ضغوط وكان يحسن الإصغاء لأفراد أسرته ويشعر كل فرد بأن له مكانة خاصة في قلبه.

برّه بوالديه كان مضرب مثل في المحيط العائلي لم يتأخر يوما عن تلبية طلب ولا رفع صوته أمامهما وكان ملازما لهما في صغرهما وكبرهما يقضي حاجاتهما قبل أن يُطلب منه ويحرص على راحتهما إلى أقصى حد، والدته كانت تذكر برّه حتى قبل وفاتها ووالده كان ظلّه الذي لم يُفارقه.

روح دافئة في المجتمع

عرف عن الأستاذ علي آل غزوي اهتمامه بصلة الرحم فكان يزور الأقارب صغارا وكبارا ويشاركهم مناسباتهم الاجتماعية والدينية ومنذ صغره التزم بحضور المجالس الحسينية وتشرّف بخدمة أهل البيت من خلال مأتمٍ صغيرٍ في بيته ما زال قائما حتى اليوم.

كان يُحب الزراعة ويجد في العمل بالأرض راحةً وصفاءً ويقضي أوقات فراغه في العناية بالخُضرة، كما كانت له رغبة خاصة في زيارة الأماكن المقدسة لا سيما المزارات التي تتعلق بأهل البيت حيث يجد في تلك الزيارات غذاء للروح وتجديدا للعهد.

أثر يبقى ولا يُنسى

اليوم وبعد سنوات من التقاعد لا يزال يُذكر بين الناس بجميل خُلقه وسعة صدره وتواضعه اللافت، طلابه السابقون حين يلتقونه لا ينسون تلك الأيام التي تعلّموا فيها دروس الحياة قبل دروس الكتب احترامه لهم وصوته الهادئ وبُعده عن العنف جعلوا منه معلّما يعلّم بالموقف أكثر مما يعلّم بالكلام، في زمنٍ كان فيه العقاب المدرسي هو القاعدة اختار أن يكون الاستثناء النبيل.

وأخيرا

تمثل سيرة الأستاذ علي أحمد آل غزوي نموذجا رفيعا للمعلّم الذي جمع بين العلم والخُلق وبين الحزم والرحمة وبين المهنة والرسالة، وعلى الرغم من بساطة مسيرته الظاهرة إلا أن أثره العميق بقي راسخا في قلوب من عرفوه ودرسوا على يديه.

هذه السيرة لا تُكتب من باب التوثيق فقط بل لتُقرأ كنموذجٍ يُحتذى وتذكرةٍ للأجيال القادمة أن التعليم رسالة وأن المعلّم الصادق يترك أثره أبعد من جدران الصف إلى ذاكرة المجتمع بأكمله.