الجرح… الباب الذي يفتح على الشفاء
هناك بابٌ داخليّ لا نجرؤ على لمسه.
نمرّ بجواره كل يوم، نتظاهر أنه غير موجود، لكننا نسمع من ورائه أنينًا يعرفنا بالاسم… إنه الألم.
يقول جلال الدين الرومي:
«هروبك مما يؤلمك، سيؤلمك أكثر. لا تهرب، تألم حتى تشفى.»
ليست هذه الكلمات عزاءً عابرًا أو حِكمة لتسلية النفس، بل هي خريطة وجودية لرحلة لا بد أن نخوضها جميعًا: رحلة العبور من خلال الألم، لا حوله.
نحن، بطبيعتنا، مجبولون على الهروب. نرفض الألم كما ترفض العين دخول الذباب. نبحث عن مخدرات العصر: انشغال لا يتوقف، تسليات لا تنتهي، أو علاقات سطحية تخدرنا عن مواجهة وحشتنا الداخلية. نظن أننا ننجو بذلك، لكننا لا نفعل سوى دفن الألم حيًّا في أقبية النفس. وهناك، في الظلام، لا يموت… بل يتضخم، ويتحول إلى وحشٍ كامن، يطل برأسه عند لحظات ضعفنا، في صورة قلق مفاجئ، غضب عارم، أو حزن بلا سبب.
لكن الرومي، كطبيب للروح، يقدّم وصفة مغايرة وجذرية: لا تهرب. تألم حتى تشفى.
هذه ليست دعوةً إلى التحمل القاسي، بل إلى الاستسلام الوقور. استسلام من يفتح الباب أمام ضيف ثقيل يعلم أنه لن يغادر لو ظل الباب موصَدًا. القرار هنا هو أن نجلس مع الألم، أن نصغي إلى رسالته: أي جرح يصرخ ليُضمّد؟ أي حقيقة نخشاها وتريد أن تُكشف؟
في علم النفس يُسمّى هذا بالمواجهة العلاجية: شجاعة الغوص في أعماق المحيط حيث تتخفّى الوحوش، لا لنُهزم أمامها، بل لنكتشف أنها في النهاية أجزاء منّا — مجروحة، خائفة، تنتظر الاعتراف. حين نواجه الخوف، نفقد سلطته. حين نسمح للحزن أن يجري، يغسل جراحنا بدموعه. الكبت يسمّم، أما المواجهة فتشفي.
أما في الفلسفة الصوفية، فالنظرة أعمق: الألم ليس عَرَضًا يجب إزالته، بل معلمٌ ضروري. إنه النار التي تذيب الغشاوة عن القلب، والمطرقة التي تنحت الصخر لتكشف عن تمثال الروح الكامن في داخله. يقول الرومي: «الجرح هو المكان الذي يدخل منه النور.»
فكما أن بذرة النبات يجب أن تتشقق تحت التراب لتصل إلى الشمس، كذلك النفس يجب أن تتشقق وتتألم لتنفتح على نور النمو والوعي.
إنها، في جوهرها، دعوة إلى الثقة بالحياة. الثقة بأن وراء كل ألم حكمة، وأن النفق المظلم يقود إلى نور لا يولد إلا عبر هذه الرحلة. الهروب فقدان لهذه الثقة، أما العبور فهو شجاعة الإبحار في قلب العاصفة.
في المرة القادمة التي يطرق فيها الألم بابك، لا تبحث عن مفرّ. افتح له. استمع. عانقه. ثق أنه لم يأتِ ليعذّبك، بل ليعيدك إلى ذاتك الحقيقية. امضِ فيه ولو خطوة واحدة، فالباب الوحيد الذي يقود إلى الشفاء هو ذاك الباب المؤلم الذي طالما خِفت أن تفتحه.