آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:17 ص

المال بين صناعة القيمة وصناعة الوهم

سراج علي أبو السعود *

يرى أفلاطون في الجمهورية أن المال إذا تجاوز حد الضرورة يصبح سببًا للفساد والظلم، لأن الرغبة في التملك تُفسد الروح وتبعدها عن الحقيقة. فيما انتقد تولستوي بشدة تعلق الإنسان بالمال حين قال في كتابه اعتراف: ”المال ليس سوى شكل جديد للعبودية، حيث يستعبد البعضُ الآخرين بسببه“. هذا التلاقي بين الفيلسوف الإغريقي والأديب الروسي يكشف أن أزمة المال ليست ظرفية بل إنسانية ممتدة، تدور حول سؤال محوري: هل المال بذاته يرفع قيمة الإنسان الاجتماعية؟ قد يبدو السؤال إنشائيًا، لكنه يلامس واقعًا معاشًا: لماذا ينال صاحب المال التقدير والهيبة، بينما يُسلب هذا التقدير من الفقير إن كان ذا دين وخلق؟ السبب كما أعتقد أن الضمير الإنساني، في جوهره، لا ينظر إلى المال كأداة لتهذيب النفس أو إصلاح المجتمع، بل كرمز للقوة والنفوذ. ولأن الإنسان كثيرًا ما ينحني أمام القوة، فهو يقدّس صاحب المال لا لذاته، بل لما يمثله من سلطة.

في اعتقادي، العالم يقترب يومًا بعد آخر من الرأسمالية بمعناها المتطرف، حيث يُنظر إلى كل شيء من خلال المال وحده. نظرة فاحصة إلى واقعنا تكفي لتمنح المتأمل يقينًا أن جزءًا كبيرًا مما نشهده من حروب ودمار وقتل وفساد، إنما يعود إلى نزعة رأسمالية بحتة، تسخّر كل شيء في سبيل الثروة. ولا أنكر أن المال ضرورة للحياة الكريمة، بل إنه وسيلة فعالة لخدمة المجتمع. غير أن المشكلة تبدأ عندما يصبح المال غاية في ذاته، لا أداة، وهنا تكمن أزمة الإنسان الحديث. وإذا كان المال في بعده الاجتماعي مسألة اقتصادية، فإنه في جوهره مسألة تربوية. فالطفل الذي تُلبى جميع رغباته من غير توجيه ينشأ معرضًا لوهم أن قيمة الإنسان تُقاس بما يملك لا بما يكون، والطفل الذي يُواجه الحرمان بلا تربية حكيمة قد يحمل عقدة نقص تدفعه لاحقًا لعبادة المال. لكن التربية الحقة تُحوّل الحرمان إلى درس في التهذيب، وتغرس أن الكرامة والخلق أثمن من أي متاع زائل. ومن هنا فإن المربي هو من يحدد: إما أن يحرر وعي الطفل من أسر المال، أو أن يرسّخ فيه بذور مجتمع رأسمالي يرى في الثروة غاية الوجود.

بيَّن القرآن الكريم صنفين من الناس في قصة قارون: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص: آية 79.80]. الصنف الأول يشبه في عصرنا أولئك الذين يرون في المال غاية نهائية، فيلهثون وراء المظاهر ويقيسون القيمة الإنسانية بما يملك المرء من قصور وسيارات فاخرة. أما الصنف الثاني فهم أصحاب العلم والعقل الراجح، الذين يَزِنُونَ الأشياء بميزان الفضيلة ويعرفون أن الكمال الحق ليس في الثروة بل في البعد العلمي والأخلاقي. وحين يسيل لعاب الناس اليوم عند رؤية علامات الثراء على رجلٍ ما، فإن العاقل الرشيد لا يكترث لهذه المظاهر، لأنها عنده مجرد قشور لا تصنع قيمة حقيقية لأحد.