رجلٌ من زمن المبادرة: قراءة في تجربة الدكتور إبراهيم البليهي
في عالمٍ تتسارع فيه التحولات البيئية، وتتصاعد فيه الدعوات العالمية نحو الاستدامة والتوازن المناخي، تكتسب التجارب الفردية قيمة مضاعفة حين تسبق وعي المرحلة، وتمهّد لمفاهيم لم تكن سائدة.
إننا اليوم حين نتحدث عن البيئة، لا نتحدث عن مشهدٍ جمالي يزيّن المدن، بل عن بُعدٍ جوهري يمسّ صحة الإنسان، وجودة حياته، وكفاءة الإنفاق العام في منظومات الخدمات الصحية والاقتصادية على حدٍ سواء.
من هنا، تفرض تجربة الدكتور إبراهيم البليهي نفسها، لا بوصفها حالة إدارية أو مشروعًا تشجيريًا فحسب، بل كنموذجٍ عميق لرؤية بيئية مبكرة، سبقت السياق، وتجلّت في مقالته الوجدانية والفكرية الشهيرة: ”العشق الممض“.
من يقرأ ذلك النص، لا يقرأ سطورًا عن التشجير، بل يدخل في سردية رجلٍ عاشقٍ للبيئة، مهمومٍ بمصير المدن، باحثٍ عن أملٍ أخضر في صحراء لا ترحم.
لقد أدرك البليهي، بفطرته العلمية وثقافته الإدارية، أن البيئة ليست ترفًا إداريًا، بل أحد أركان الصحة المجتمعية والاقتصاد الوطني، وأن التشجير الناجح لا يأتي من القرارات المكتبية، بل من الميدان، من البحث، ومن التجريب، ومن الإيمان العميق بأن الأرض تستحق.
ما ميّز البليهي أنه لم يتحدث من مقعد الموظف، بل من موقع الباحث الذي يُصغي جيدًا لما تقوله التربة، وما تبوح به الأشجار حين تذبل.
قرأ، وسافر، وفتّش، وجرّب، وتعامل مع الأرض ككائن حي له ذاكرة واحتياجات.
كان يُسائل الواقع بكل أدوات المنهج العلمي، ويواجه فشل المحاولات السابقة لا باليأس، بل بإعادة النظر، والبحث عن حلول أكثر ذكاءً وملاءمة.
وكان اكتشافه لشجرة ”البروسوبس“ نقطة تحوّل. هذه الشجرة التي تقاوم الجفاف، وتُزهر في قلب الصحراء، لم تكن مجرد نوع نباتي، بل كانت رمزًا لانتصار الرؤية على العشوائية، وانتصار العلم على التكرار الأعمى.
وحين رأى نجاحها في أحياء الظهران ومعسكرات أرامكو، عرف أن الفكرة التي كانت تؤرقه لم تكن جنونًا، بل كانت حلمًا قابلاً للتحقق، فقط حين يُبنى على أسسٍ علمية وتجريبية.
نقل التجربة من المنطقة الشرقية إلى القصيم، ومن ميدان إلى آخر، بإصرار الإداري الذي يرى في كل غرسٍ مسؤولية، وفي كل ظلٍ قيمة مضافة لحياة الإنسان.
والأهم من ذلك، أنه لم يكن يلهث خلف إنجاز شخصي، بل كان يرى أن البيئة مسؤولية جماعية، وأن السياسات الذكية تبدأ من أسئلة بسيطة يطرحها عقلٌ حُرّ.
لقد تماهى طرح البليهي مع مفاهيم الصحة العامة بشكل غير مباشر؛ فالتشجير يُقلل من التلوث، ويُخفف درجات الحرارة، ويُحسّن الصحة النفسية، ويُقلص الأعباء الصحية الناتجة عن الإجهاد المناخي.
ومن زاوية الاقتصاد الصحي، فإن الاستثمار في البيئة هو استثمار وقائي يُقلل من كلفة العلاج، ويرفع من كفاءة النظم الصحية.
واليوم، بعد مضي أكثر من ثلاثة عقود على تلك الرؤية، تتبنّى الدولة ذات المسار في إطار رؤية السعودية 2030، التي وضعت البيئة والاستدامة في قلب أولوياتها.
وما كان حلمًا فرديًا للبليهي، أصبح توجّهًا وطنيًا تُدار له المبادرات وتُرصد له الميزانيات.
وهنا تظهر قيمة ما فعله هذا الرجل. لم ينتظر الموجة، بل صنعها. لم يتكئ على السياق، بل شكّله.
أشجار البروسوبس التي تظلل شوارع القصيم، لم تنبت وحدها، بل زرعها فكرٌ، وسقاها وعيٌ، وحرستها رؤية بعيدة المدى.
الدكتور إبراهيم البليهي لم يكن إداريًا يحرص على تنفيذ ما يُطلب منه، بل كان صانع طريق، ومُهندس وعي، وكاتبًا بمفهوم الباحث لا الناقل.
كتب بيد، وزرع بالأخرى، وترك خلفه أثرًا يُرى ويُلمس، لا يُصفّق له فقط.
في زمن ترتفع فيه الأصوات للحديث عن البيئة، لا بد أن نُكرّم أولئك الذين تحدثوا قبل الجميع، لا من باب الإطراء، بل من باب ردّ الجميل لفكرٍ نافع، وعملٍ صادق، وسيرةٍ سبقت الرؤية، ورافقتها حين وصلت.
هكذا تُكتب التجارب الملهمة، وهكذا تُحترم الجهود حين يكون صاحبها صادقًا مع فكرته، وأمينًا في مسؤوليته، ومخلصًا لوطنه وإنسانيته