آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:17 ص

فتى المنبر.. وقمر القديح

عماد آل عبيدان

الفجر في بلدة القديح هذه المرة لم يكن يحمل بشارة نور، حمل وجعًا غريبًا لم نعهده من قبل؛ وجع فقدنا لفتى المنبر، الشاب المؤمن الملا كرار حسين سعيد العسيف، الذي رحل عن دنيانا وهو لم يخط بعد إلى الثامنة عشرة من عمره. رحيل خاطف كبرق أضاء لحظة ثم انطفأ، تاركًا في النفوس أثرًا لا يُمحى، وكأنّ البلدة بأكملها قد فقدت قلبًا نابضًا بالصوت الحسيني.

يا كوكبًا ما كان أقصرَ عمرهُ
وكذا تكونُ كواكبُ الأسحارِ

هكذا عبّر الشعراء عن رحيل اليافعين من قبل، وهكذا نقف اليوم أمام مصابنا الجلل، نتمتم بالآية الكريمة:

﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ

قصر العمر وعظمة الأثر

كان الملا كرار صورةً ناصعة لشاب حمل همَّ المنبر مبكرًا، تزيّا بروح الخدمة، وارتقى درجات الولاء وكأنه عاش أعمارًا ممتدة في سنواته القصيرة. لم يُمهله القدر طويلًا، غير أنّ صوته بقي شاهدًا على أن العمر لا يُقاس بالسنوات، إنما بما يتركه المرء من أثر وإيمان في قلوب من حوله.

وما أشبه قصته بقصة علي الأكبر ، ابن الإمام الحسين ، الذي خرج إلى الطفّ في ريعان الشباب، فأبكى عيون آل محمد وأدمى قلوب المؤمنين. علي الأكبر رحل وهو في الثامنة عشرة، وها نحن اليوم نودّع شابًا من القديح لم يبلغ تلك السن بعد، وكأن القدر يذكّرنا بأن خطّ الخدمة الحسينية موصول بالدمع والدم، بالحب والإيمان، منذ كربلاء وحتى يومنا هذا.

ألم المجتمع ودهشة الرحيل

لم يكن رحيله خبرًا يمر مرور الكرام؛ لقد اهتزّت القديح ومحافظة القطيف وغيرها مدارسها وأزقتها ومجالسها، فالملا كرار لم يكن فردًا عاديًا، كان عنوانًا لجيل آمن أن المنبر رسالة وليست وظيفة. زملاؤه في المدرسة الأولى بالقديح ارتبكوا بين دمعة ودهشة، وكيف لا، وهم الذين اعتادوا أن يروه مشعًّا بالحياة والهمة، فإذا به يغيب فجأة تاركًا مقعدًا فارغًا وصوتًا ظل يتردّد في وجدانهم.

بين حزن واعتبار

هذا الرحيل المفاجئ هو تذكرة لنا جميعًا بأن الحياة أقصر من أن تُؤجَّل فيها رسائل الخير لا مجرد مأساة تعاش فقط. الملا كرار حمل الراية في صباه، وخدم الحسين في طفولته، وكأنّه سبقنا إلى ميدان يُمتحن فيه صدق الولاء، وتركنا نتأمل: ماذا فعلنا نحن في أعمارنا الطويلة؟ وهل قمنا بما يليق بذكْر الحسين وخدمته؟

عزاء يتجاوز الحدود

إنه ليس عزاءً لأسرته وحدها، ولا لمحبّيه فقط، هو عزاء لكل خدمة الإمام الحسين في مشارق الأرض ومغاربها، فالموت حين يخطف واحدًا من شباب المنبر يذكّرنا أن الخطاب الحسيني ليس حكرًا على كبار السن وأصحاب التجربة الطويلة؛ هو روح تتنفس في كل جيل، وتزهر كلما صعد شاب مخلص ليهتف: ”السلام عليك يا أبا عبد الله“.

خاتمة على وقع الرجاء

رحم الله الشاب المؤمن الملا كرار العسيف، وأسكنه الفسيح من جناته، وحشره مع النبي محمد وآله الطاهرين. لروحه الطاهرة، ولأرواح آبائه وأجداده وجميع خدمة المنبر الحسيني، نهدي ثواب سورة الفاتحة تسبقها الصلاة على محمد وآل محمد.

هكذا يمضي الفتى الحسيني، تاركًا لنا منبرًا يتيمًا وقلوبًا مثقلة، غير أن ذكراه ستظل قنديلًا مضيئًا في دروب العاشقين للحسين ، ودليلًا على أن قصر العمر قد يحمل عظمةً لا تبلغها أعمار مديدة.

نداءٌ أخير

فيا أيها الراحل الصغير، أيها الصوت الذي لم يكتمل نضجه بعد، رحلتَ سريعًا وكأنك استعجلت لقاء الحسين . كنا ننتظر أن نراك تكبر بيننا، فإذا بك تكبر في عليائك، حيث لا موت ولا فناء، حيث الأبدية مع أولياء الله، فحشرك الله مع محمد وآل محمد.