آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:17 ص

تكامل الصناعة وصحة الإنسان في رؤية سعود

عاطف بن علي الأسود *

في العقد الأخير، تحولت المملكة العربية السعودية من اقتصاد يعتمد تقليديًا على تصدير النفط إلى اقتصاد متنوع ينمو بأركانه المختلفة، وتصدّر المشهد نموذج جديد للاستثمار يرتكز على الإنسان، والبيئة، والصناعة معًا. هذا النموذج ليس فقط رؤية نظرية، بل واقع يتجسّد في مدن صناعية متقدمة مثل الجبيل وينبع ورأس الخير، وفي مبادرات وطنية عملاقة مثل رؤية 2030 والاستراتيجية الوطنية للاستثمار (National Investment Strategy).

هذا التحول الجذري لا يُقاس فقط بالأرقام، بل بالقدرة على بناء بيئة إنتاجية مستدامة وصحية للعيش والعمل، وهو ما تفتقر إليه كثير من الدول الصناعية الكبرى رغم تقدمها الاقتصادي.

بيئة استثمار لا تعرف المفاضلة بين الاقتصاد والإنسان

القاعدة القديمة التي وضعت الاقتصاد في كفة، والبيئة وصحة الإنسان في كفة أخرى، لم تعد مقبولة في المملكة. في السعودية الجديدة، لم يكن هناك خيار بين الصناعة أو البيئة، أو بين النمو الاقتصادي أو سلامة السكان، بل سارت كل هذه المحاور جنبًا إلى جنب، ضمن هندسة دقيقة توازن بين التطور الصناعي والانضباط البيئي والاستثمار في الإنسان.

المدن الصناعية الكبرى في المملكة، كمثال، لم تُصمم لتكون مجرد مواقع للتكرير أو الإنتاج البتروكيميائي، بل صُممت لتكون مجتمعات متكاملة (Integrated Industrial Communities). تتوافر فيها أحياء سكنية، منشآت صحية، مدارس، حدائق، ومراكز تدريب، وهو ما يعزز مفهوم التكامل الصناعي السكني (Industrial-Residential Integration)، ويحوّل العامل من مجرد أداة في عجلة الإنتاج إلى شريك رئيسي في التنمية.

الصحة كأولوية اقتصادية

أحد المحاور اللافتة في النهج السعودي هو الاستثمار في صحة الإنسان كرافعة اقتصادية. هذا المفهوم، المعروف عالميًا باسم Human Capital Investment, أصبح حجر الزاوية في بناء القوى العاملة القادرة على الإبداع والمنافسة في السوق العالمية.

في الجبيل وينبع ورأس الخير، على سبيل المثال، لا تُدار المصانع الكبرى بدون خطة موازية للصحة البيئية، من حيث معالجة النفايات، ورقابة الانبعاثات، وتوفير خدمات طبية عالية المستوى داخل المدن الصناعية نفسها. الدولة لم تترك صحة العامل رهينة لظروف العمل، بل صنعت بيئة صناعية آمنة صحيًا وبيئيًا، وفق أعلى معايير السلامة المهنية والبيئية (Environmental Safety & Occupational Health Standards).

وبحسب دراسة صادرة عن الهيئة الملكية للجبيل وينبع، فإن معدلات الإصابات المهنية في المدن الصناعية السعودية أقل بنسبة 40% من نظيراتها في الأسواق الصناعية التقليدية، مما يعكس نجاح الدولة في دمج الاعتبارات الصحية ضمن التخطيط الصناعي.

الاقتصاد الأخضر… من شعار إلى ممارسة

أطلقت السعودية عدة مبادرات تحت مظلة الاقتصاد الدائري للكربون (Circular Carbon Economy)، والتي تعد من أكثر المبادرات توافقًا مع أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة. تعمل المملكة، بالتعاون مع جهات بحثية مثل جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (KAUST)، وشركات وطنية كبرى مثل ”أرامكو“ و”معادن“، على تطوير تقنيات لاحتجاز الكربون، وإعادة تدويره، وتوظيفه في صناعة الطاقة النظيفة.

هذه المبادرات لم تبقَ داخل غرف الاجتماعات، بل ظهرت عمليًا في مشاريع مثل:

• مزرعة دومة الجندل لطاقة الرياح

• محطة سكاكا للطاقة الشمسية

• مجمعات إعادة التدوير الصناعي في رأس الخير

وهي مشاريع لم تقلل فقط من الانبعاثات، بل خلقت فرص عمل ورفعت قيمة الاستثمارات البيئية المستدامة، وهو ما يُعرف في الأدبيات الاقتصادية بـ Green Investment.

توسّع الاستثمارات ودور القطاع الخاص في مواجهة التحديات

في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية الراهنة التي يمر بها العالم والمنطقة، شهدت المملكة العربية السعودية توسيعًا غير مسبوق في الاستثمارات الجديدة، مع تركيز واضح على دعم القطاع الخاص السعودي ليكون شريكًا رئيسيًا في التنمية الاقتصادية. هذه الاستراتيجية تمثل استجابة ذكية وواقعية للتقلبات الاقتصادية العالمية، وتقليل الاعتماد على الموارد النفطية التقليدية.

لقد تبنت المملكة سياسات محفزة، منها تسهيل إجراءات تأسيس الأعمال، توفير الحوافز الضريبية والتسهيلات المالية، وإنشاء صناديق تمويلية ومبادرات ريادية تستهدف المشاريع الصغيرة والمتوسطة (SMEs)، ضمن إطار يهدف إلى تنمية الاقتصاد الوطني، وخلق فرص عمل نوعية، وتحقيق النمو المستدام (Sustainable Growth).

هذا النمو لا يقتصر على الجانب الاقتصادي فقط، بل يمتد ليشمل التنمية الاجتماعية، من خلال رفع مستوى معيشة المواطن، وتمكين الكوادر الوطنية عبر التدريب والتطوير المهني.

وقد أثمرت هذه الجهود عن نتائج ملموسة، حيث ارتفعت مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي بشكل ملحوظ، وأصبح القطاع الخاص محركًا رئيسيًا في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وبناء شراكات استراتيجية مع مؤسسات عالمية.

وهذا ما يؤكد أن المملكة لا تسعى فقط إلى توسيع قاعدة اقتصادها، بل إلى بناء اقتصاد متين ومرن قادر على التكيف مع المتغيرات العالمية، مع الحفاظ على التوازن بين التنمية الاقتصادية، والصحة العامة، والبيئة.

المراجع التي استندت إليها الدولة

تعتمد الاستراتيجية السعودية على عدة مراجع ودراسات عالمية في بناء سياساتها التنموية المتكاملة، من أبرزها:

• World Bank - Human Capital Index: الذي يُظهر العلاقة بين صحة الإنسان وقدرته الإنتاجية.

• OECD - Green Growth Strategy: لتوجيه السياسات الصناعية نحو بيئة نظيفة.

• UNIDO - Sustainable Industrial Development Framework: الذي يشجّع على تطوير المدن الصناعية بطريقة متكاملة.

• McKinsey Global Institute Reports: التي دعمت خطط الدولة في تنمية القطاعات غير النفطية من خلال الاستثمارات النوعية.

السعودية كمركز عالمي جديد للاستثمار

في 2025، أصبحت المملكة بين أفضل 20 اقتصادًا عالميًا في مؤشرات سهولة ممارسة الأعمال (Ease of Doing Business)، مع تجاوز حجم الاستثمار الأجنبي المباشر حاجز 30 مليار دولار سنويًا، حسب تقرير UNCTAD. هذا الإنجاز ليس مجرد نتيجة لتيسير الإجراءات أو منح الإعفاءات، بل نتيجة لرؤية استراتيجية ترى في الإنسان والبيئة شركاء في العملية الاقتصادية، لا متغيرات هامشية.

ختامًا، ما تحقق في السعودية اليوم ليس مجرد توسع صناعي أو تدفق استثماري، بل هو بناء لاقتصاد جديد يحترم الإنسان، ويحمي البيئة، ويحقق الربحية، ويمنح المستقبل بعدًا إنسانيًا واقتصاديًا متكاملًا.

المملكة لا تطرح فقط مصانع جديدة، بل تُعيد تعريف مفهوم التنمية الاقتصادية.

دراسات عليا اقتصاد صحي