آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:17 ص

وداع الفتى الحسيني ”الملا كرار العسيف“

حسن محمد آل ناصر *

برحيل الشبل الحسيني كرار العسيف توشّحت المنابر بالحزن وارتجفت القلوب الموالية شوقا لفتى لم يُكمِل نداءه فقد غاب الجسد وبقي الأثر وتوقّف الصوت، لكن صدى الولاء لا يتوقف وأصواتُ الخطباء الصغار ستظل تردد ما بدأه وتكمل درب الحسين الذي سار فيه بعزيمةٍ لا تعرف التوقف.

لم يكن كرار مجرّد شابٍ في مقتبل العمر، بل كان مشروع خطيبٍ كبير يحمل في قلبه حبّ الحسين وفي صوته حرارة المجالس وفي خطاه أثر الولاء وفي سلوكه خُلق الخدم الصادقين لأهل البيت .

منذ ولادته في 13 من شهر رجب عام 1429 هـ الموافق 16 يوليو 2008 م، ترعرع بين والدين وأُسرة عُرفت بخدمة أهل البيت، وتربى على حبهم وعلى المجالس التي لا تخلو من اسم الحسين، كان الابن الخامس في عائلته لكنه كان الأول في المبادرة إلى المنبر والاندفاع نحو الخطابة والاندماج في المجالس وكأن حب الحسين قد خُلق معه لا اكتسبه.

كان يمتلك ذاكرة حافظة وصوتا يصدح بالحزن وأداء يُجيد به القصائد الفصيحة ويبرع في القصيد الشعبي ”النبطي“ الذي أحبّه الناس من خلاله فتفاعلوا معه بالبكاء والنحيب، ما إن يرتقي المنبر حتى يسكن المجلس ويُصغي الجميع لصوته العذب وكلماته النابعة من قلبٍ عاشقٍ للطف.

بدأت رحلته مع المنبر في سن الثالثة عشرة أثناء جائحة كورونا في مجلس أُقيم بمناسبة استشهاد السيدة سكينة في منزل السيد علوي الشويكي، تلك اللحظة كانت البذرة التي كبرت بسرعة وأثمرت قراءات متعددة ومشاركات فعّالة في المجالس جعلت منه اسمًا يُشار إليه بالبنان رغم صغر سنه.

كان خادما بارا للمنبر متواضعا رغم التميز حريصا على التعلّم والتطوّر ساعيا للالتحاق بالدروس الحوزوية ليجعل من علمه سلاحا لخدمة الحسين ، درس في المرحلة الثانوية وكان من المتفوقين محبا للقرآن ملتحقا بدورات التجويد والحفظ محيطا نفسه بالعلماء والأساتذة ومقبلا على النصح والتوجيه لا يردُّ يدًا تمتد إليه بالتعليم ولا يتأفف من نقدٍ يصحح له مساره.

كل مَن عرفه شهد له بالأدب والخلق وصفاء القلب وصفاء النية لم يكن طالب شهرة بل طالب قرب من الحسين، لم يكن يقرأ ليُقال: قرأ، بل ليشعر أنه أدى جزءا من حقّ الحسين، وكان يطمح أن يحمل هذا الصوت المبارك إلى حيث يصل صداه لكل من لا يزال قلبه حيّا بمصاب أهل البيت.

لكن القدر لم يُمهله.

رحل، وصوته ما زال حاضرًا في مجالسنا.

رحل، وأحلامه في العلم والخدمة والارتقاء لم تكتمل.

رحل، وترك خلفه فراغا موجعا في قلوبنا، وفي قلب كل مجلس كان يفتتحه بنبرةٍ دامعة.

ليس سهلًا أن نقول وداعًا لمن كانت بدايته تبشّر بالكثير، وليس هيّنا أن نطوي صفحة شابٍ لم يذبل، بل قُطف قبل أن يشتد عوده، لكننا نحتسبه عند الله ونرجو أن يكون في جوار الحسين ومع أصحاب المنبر مع الدمعة الأولى التي سقطت ومع أول قارئ بكى الحسين خالصا لوجه الله.

يا ملا كرار نم قرير العين لقد أديت وقرأت وبكيت وأبكيت وسعيت لخدمة الحسين في كل ما استطعت، نم على تربةٍ عشقك لها وربما تحتضنك الآن وهي تعرف صوتك وتحنّ إلى خشوعك، وتبتسم لك كما ابتسم لك مجلس العزاء أول مرة، سلام عليك يوم وُلدت ويوم خطبت ويوم رحلت ويوم نعيت ويوم تُبعث خادما للحسين بين يدي ربك.

لم يُمهله القدر ليكمل ما بدأه ولكنّ الله اصطفاه اختاره من بين المحبين وضمّه إلى جوار الحسين وهو في عمرٍ غضّ بروحٍ طاهرة لم تُدنّسها الدنيا ولم تُغوها الزينة، لقد تُوفّي في يوم الأحد، الخامس عشر من شهر ربيع الأول، عام 1447 هـ، فرحل ملا كرار في يومٍ له نكهة ولائية خاصة كأنما خُتمت حياته بقبولٍ خاص ورحمةٍ خاصة ومقام خاص.