آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:16 ص

حوافّ غير منسوجة

عبير ناصر السماعيل *


الكاميرا تطفو في فضاءٍ صامت، ثم تهبط ببطء، كعينٍ تستيقظ على العالم. تحتها، تمتد أرضية من الخشب المصقول، تعكس ضوءًا ناعمًا. على هذه الأرضية، تتناثر قطع أحجية عملاقة، لا تحمل صورًا، بل كلماتٍ منقوشة بعناية: ”والدين“، ”إخوة“، ”أصدقاء“، ”عمل“، ”زواج“، ”أبناء“. وفي المنتصف، كشمسٍ يدور حولها هذا الفلك من العلاقات، ترقد قطعة ”الذات“.

من هذا الشتات تبدأ الحكاية. حكاية كل إنسان وهو يحاول تركيب أحجية علاقاته المتناثرة على أرضية الحياة، في رحلة لفهم الذات والآخر. وعند حافة كل قطعة، عند نقطة التلامس الحاسمة مع الآخر، تكمن القوة التي إما أن تربط أو تفرق: القبول.

لكن يبقى السؤال الأخير معلقًا في الفضاء الصامت، كهمسةٍ تطاردنا: ما هي حقًا حقيقة معنى ”القبول“ بالنسبة لنا، في أعماقنا؟ وهل تجرأنا يومًا أن ندير هذا السؤال نحو من يشاركوننا قطع الأحجية، لنسألهم بصوتٍ واضح: ”حين تقول إنك تقبلني، أيَّ معنى تحمل كلمتك؟ وهل خريطتك هي خريطتي؟“

وهنا يبدأ الإبحار، ليس في محاولة تجميع القطع، بل في اكتشاف طبيعة القوة التي تربطها: القبول، بوصفه فعلاً خلاقًا، لا استسلامًا سلبيًا.

الفصل الأول: الخيط الأول في النسيج

في قلب كل قطعة من قطع الأحجية، وفي صميم كل علاقة إنسانية، تقف كلمة واحدة، بسيطة في نطقها، معقدة كالحياة في معناها: القبول.

لكن هذه البساطة خادعة. فالمرء قد يسهل عليه أن يقول ”أنا أقبلك“، دون أن يدرك عمق المحيط الذي تحمله هذه الكلمة. هنا، تتقدم أصوات الحكماء والفلاسفة من خلف ستار الزمن، لا لتقدم إجابات جاهزة، بل لتضع بين أيدينا عدسات وموازين تكشف لنا ثقل ما نقول.

ففي كتابه «الأخلاق إلى نيقوماخوس»، يضع أرسطو أمامنا ميزانًا دقيقًا، ويسأل ببرود: هل قبولك للآخر قائم على منفعة مؤقتة، أم متعة عابرة، أم أنه تقديرٌ لجوهر فضيلته؟ فشتان ما بين قبولٍ يقوم على الحاجة وقبولٍ يحتفي بالروح.

بينما تذكرنا تعاليم كونفوشيوس في كتابه «الأقوال» بأن القبول ليس دومًا خيارًا فرديًا حرًا، بل هو أحيانًا فهمٌ لدورنا ومسؤوليتنا في نسيج اجتماعي متناغم، حيث يصبح فضيلة أخلاقية وضرورة للحفاظ على توازن الكون الصغير الذي نعيش فيه.

ومن زاوية أخرى، ينحت إريك فروم فكرته في كتابه الخالد «فن الحب»، ليؤكد أن القبول ليس حالة سلبية من الرضا، بل هو فنٌّ يُمارس، وعملٌ دؤوب يتطلب رعاية ومسؤولية واحترامًا ومعرفة. إنه ليس شعورًا نعثر عليه، بل بناءٌ نشيده كل يوم.

ثم يأتي جلال الدين الرومي في رائعته «المثنوي»، ليهمس من منظاره الكوني بأن أسمى درجات القبول هو ذاك الذي نرى فيه الآخر ليس ككائن منفصل، بل كتجلٍّ للنور الإلهي، فتتلاشى الحدود وتصبح العلاقة نافذةً شفافة على المطلق.

وأخيرًا، تقدم الأديان السماوية منظورها المتجاوز، فتضع القبول في إطاره الأسمى كعهد إيماني ومسؤولية أمام الله، مستندةً إلى المبدأ التأسيسي: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [سورة الإسراء: 70]. فالقبول هنا هو النتيجة الحتمية لهذا التكريم الإلهي؛ إنه احتفاء بهذا الخلق المكرم، ورؤية الآخر كأمانة، وحفظ حقوقه وستره ليس فقط كفضيلة إنسانية، بل كعبادة نتقرب بها إلى المطلق.

هذه العدسات الخمس — القبول النفعي «أرسطو»، والقبول كواجب «كونفوشيوس»، والقبول كفن ورعاية «فروم»، والقبول كتجلٍ إلهي «الرومي»، والقبول كعهد إيماني «الأديان السموية» — ليست مجرد نظريات مكدسة في الكتب. إنها في الحقيقة الخيوط غير المرئية التي تعلمنا أن ننسج بها علاقاتنا قطعة قطعة، بدءًا من تلك الحواف الأولى التي شكّلها لنا القدر.

إن هذا الفهم العميق للقبول لا يولد معنا كاملاً. إنه رحلة، معرفة تُكتسب وتُختبر عبر محطات الحياة. إنها رحلة الروح وهي تلتقط قِطع وجودها بالترتيب الذي تفرضه الحياة: قطعة ”الوالدين“ التي تشكل حوافنا الأولى، ثم ”الإخوة“ و”الأصدقاء“ كأول مرايا نرى فيها أنفسنا، مرورًا بـ ”العمل“ الذي يعرف هويتنا المجتمعية، وصولًا إلى ”الزواج“ كميثاق اختيار واعٍ، وانتهاءً بـ ”الأبناء“ كامتداد للذات في المستقبل.

وبهذه العدسات المختلفة، وبهذه الخريطة الزمنية، تختلف نظرتنا للأحجية المتناثرة. كل قطعة لم تعد مجرد كلمة، بل أصبحت عالمًا من الأسئلة. والرحلة عبرها الآن هي غوصٌ في الأعماق، لا مجرد تجميعٍ للأطراف.

وهذا يتركنا أمام سؤال مهم في رحلتنا: إذا كانت أولى تعريفات القبول تُنقش في أرواحنا بصمت من خلال علاقتنا بوالدينا، ثم نكتشف لاحقًا كل هذه العدسات الفلسفية العميقة... فأي قبولٍ نمارسه حقًا في حياتنا؟ القبول الذي تعلمناه بالوراثة، أم القبول الذي اخترناه بالوعي؟ وهل نحن حقًا أحرار في أن نختار؟

الفصل الثاني: حافّة لم تكن في الحسبان

المشهد

الكاميرا تعود للقطعة التي أصدرت صريرًا. لا تزال في مكانها، لم تُرفض ولم تُكسر. لكن المشهد الآن ليس عن القطعة، بل عن اليد التي تمسك بها. اليد مترددة، تشعر بحدة النتوء غير المتوقع. السؤال ليس ماذا ستفعل اليد، بل ماذا يحدث بداخل من يملك هذه اليد.

التحليل

هنا يولد السؤال الذي يختبر جوهر فكرتنا بأكملها: هل الشعور بالصدمة أو خيبة الأمل يلغي بالضرورة حالة القبول التي كنا نظن أنها راسخة؟

قد نستعير هنا عدسة من الفيلسوف الرواقي إبكتيتوس، الذي يذكرنا في كتابه المختصر «Enchiridion» بأن: ”ما يزعج الناس ليس الأشياء، بل آراؤهم حول الأشياء“. بتطبيق هذه الحكمة على سؤالنا، نتساءل: هل الصدمة «الحدث» هي التي تهدم قبولنا، أم أن الفكرة التي نكونها عنها هي ما يهدمه؟

ولفهم هذا الفصل الدقيق، هل يمكننا أن نتخيل الموقف برمته كمحيط؟ قد يكون القبول هو المحيط نفسه: عميق، شاسع، ثابت، يمثل موقفنا الوجودي تجاه الآخر. وقد تكون الصدمة أو خيبة الأمل هي الموجة العاتية التي تتشكل على السطح: عنيفة، مؤقتة، حقيقية في أثرها، لكنها تظل ظاهرة سطحية مقارنة بعمق المحيط وثباته.

لكن الإجابة على سؤال ”هل تلغي الموجة المحيط؟“ تكمن في فهمنا لتركيبة هذا المحيط نفسه، محيط الذات. فهو ليس كتلة واحدة من المياه، بل طبقات لكل منها طبيعتها الخاصة.

• على السطح، حيث تضرب الموجة بقوة، تقع طبقة الجسد؛ طبقة التعاملات المادية والحضور الفيزيائي الذي يتأثر مباشرة بالحدث.

• تحت السطح مباشرة، حيث تضطرب التيارات، تقع طبقة الوجدان؛ ساحة الأفكار والمشاعر والتوقعات التي تتعكر بشدة بفعل الصدمة.

• وفي الأعماق السحيقة والهادئة، حيث لا يصل أثر العاصفة، تقع الروح؛ نواة الكينونة الصافية التي يتجلى فيها القبول في أنقى صوره.

بهذا الفهم، يصبح سؤالنا أكثر دقة: الموجة بلا شك تضرب السطح «الجسد» وتعكر المياه العلوية «الوجدان»، لكن هل تصل اهتزازاتها حقًا لتمس سكون الأعماق «الروح»؟ وهذا يقودنا مباشرة إلى قلب المعضلة: هل قبولنا الحقيقي هو قبول ”روحي“ قادر على احتواء صدمات ”الوجدان“ و”الجسد“؟ أم أن كل قبول لا يسكن الأعماق هو في جوهره هشٌ ومشروط، ينتظر أول موجة حقيقية ليتحطم؟

الفصل الثالث: حين تتحرك الحواف

جوهر الحياة هو التغيير. وكما قال الفيلسوف اليوناني هرقليطس: ”لا يمكن للمرء أن يخطو في نفس النهر مرتين“. هذا النمو، الذي يؤدي حتمًا لتبدل الأفكار والتصرفات، هو ما يولد ”صدمة التحول“. السؤال لم يعد: ”هل أقبلك بما لا أعرفه عنك؟“، بل أصبح: ”هل يمكن لقبولي أن ينمو ويتطور مع نموك وتطورك؟“

وهنا، يطرح فلاسفة الوجودية مثل جان بول سارتر فكرة أن الإنسان مشروع يصنع نفسه باستمرار. لكن هذا ”المشروع“ لا يتطور في بعد واحد، بل عبر طبقات الكيان الثلاث التي اهتزت في الصدمة الأولى:

• على مستوى الجسد: قد تنمو الحواف المادية وتتبدل. عادات تتغير، صحة تتأثر، أو مجرد أثر الزمن الذي ينحت ملامح جديدة. فهل قبولنا قادر على أن يحب هذه الملامح المتغيرة بنفس شغف البدايات؟

• على مستوى الوجدان: وهو التحول الأعمق والأكثر شيوعًا. أفكار تنضج، قناعات تتطور، أحلام تولد وأخرى تموت. هنا يصبح السؤال السارتري حادًا: هل أقبل حريتك في أن تصبح ”مشروعًا“ لا أعرفه، حتى لو كان هذا المشروع يهدم الخريطة القديمة لعلاقتنا؟

• على مستوى الروح: قد يسلك الآخر مسارًا روحيًا جديدًا، بحثًا عن معنى مختلف. هذا التحول لا يغير الحواف فقط، بل يغير النور المنبعث من القطعة نفسها. وهنا يبلغ التحدي ذروته: هل يمكن لقبولي أن يتجاوز مجرد ”التكيف“، ليصل إلى ”مباركة“ رحلة روحك، حتى لو أخذتك بعيدًا؟

إن التحدي الأكبر للقبول ليس في احتواء ماضي الشخص، بل في احتضان مستقبله المجهول الذي قد يجعله شخصًا مختلفًا تمامًا على كل هذه المستويات.

الخاتمة: النظر إلى الأحجية المفتوحة

نعود أخيرًا إلى الأحجية المتناثرة على الأرض، لكن نظرتنا إليها قد تغيرت. لم تعد مجرد خريطة لعلاقاتنا بالآخرين، بل أصبحت مرآة للطريقة التي نقبل بها أنفسنا والعالم.

لقد خضنا رحلة عبر العدسات الفكرية والروحية، وتعلمنا أن نفكك معنى القبول إلى طبقاته الثلاث: الجسد، والوجدان، والروح. وبهذه العدسة، واجهنا ”صدمة الكشف“ التي تهز وجداننا، و”صدمة التحول“ التي تعيد تشكيل كياننا على كل المستويات. أدركنا أن القبول ليس حالة سلام بسيطة، بل هو محيط واسع وعميق، قادر على احتواء أعنف العواصف، فقط إن كان له جذور ضاربة في عمق الروح.

ربما لم تكن الرحلة أبدًا عن محاولة تركيب القطع الأخرى، بل عن فهم حواف وشكل القطعة التي بين أيدينا أولاً: قطعة ”الذات“، بجميع طبقاتها؛ بجسدها الذي يتغير، ووجدانها الذي يتقلب، وروحها التي تبحث عن السكون. وهذا يتركنا مع سؤال أخير، قد يكون هو أهمها جميعًا: بعد كل هذا الغوص، هل القبول هو حقًا ما يجعل العلاقات تنجح وتستمر؟ أم أنه ببساطة، هو ما يجعلنا نستحق أن نكون في علاقة أصيلة مع أنفسنا أولاً؟

خاتمة الخاتمة: أسئلة عند حافة النسيج

وحتى بعد أن نركز على قطعة ”الذات“، يظل هناك سؤال يلح: هل معرفة طبقات الذات تكفي حقًا لنعرف كيف نقبل الغير؟ أم أنها مجرد الخطوة الأولى في رحلة لا تنتهي من الفهم؟

وهنا نصل إلى السؤال الأكثر جرأة في رحلتنا: هل ”القبول“ الذي حللناه وفككناه، هو بالفعل أحد أسس العلاقات الصادقة، أم أنه في بعض الأحيان قد يصبح ”الشماعة“ الأنيقة التي نعلق عليها فشلنا في التواصل، أو تبريرنا السهل لبقائنا في علاقات لم تعد تخدم نمونا؟

كاتبة ومستشارة استراتيجية، تؤمن أن الوعي هو أول خطوة في بناء أي كيان ناجح، وأن ما لا يُفهم في الذات، لا يُصلح في المؤسسة