عطر يتيم في الزحام
إنّ الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان بفطرة تميل إلى التآلف والتعاون، وجعل العلاقات الإنسانية أساسًا لبناء المجتمعات. فالعلاقة بين فرد وآخر ليست مجرد تفاعل عابر، بل هي شبكة من المودّة والرحمة، تظهر فيها أجمل معاني الإنسانية. وقد حثّنا القرآن الكريم على تقديم العون للمحتاجين والضعفاء، وجعل في ذلك أجرًا عظيمًا، فاليد العليا خير من اليد السفلى. قال تعالى في محكم كتابه: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى? حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ [سورة الإنسان: الآية 8-9]. هذه الآية الكريمة تُرسي قاعدة ذهبية في التعامل مع الآخرين، وهي أن يكون العطاء خالصًا لوجه الله، دون انتظار مقابل.
في زحام الحياة، وبين ضجيجها وصخبها، تختبئ قصص كثيرة عن أناس يكابدون الصعاب في صمت. إنهم الفقراء المتعففون، الذين يحملون على عاتقهم همومًا لا يعلمها إلا الله. هم أولئك الذين يعملون في ظروف قاسية، يتناثرون في الشوارع والأسواق، لا ليطلبوا العون، بل ليعملوا بجد وكدّ من أجل لقمة العيش. قد تراهم وهم ينظفون الشوارع، أو يجمعون القمامة، أو حتى يعملون في دورات المياه العامة. إنها وظائف شاقة، قد يراها البعض ”وضيعة“، لكنها في الحقيقة أعمال شريفة، أصحابها لا يمدون أيديهم للسؤال.
إن هؤلاء الأشخاص هم أصحاب ”العطر اليتيم في الزحام“. عطرهم لا يفوح من قارورات ثمينة، بل من كدّ جبينهم وعرقهم، ورائحة كفاحهم وصبرهم. عطر لا يشمه إلا من يمتلك قلبًا يدرك قيمة الكفاح والعمل الشريف. ولكن للأسف، يقلل بعض الأشخاص من شأنهم، ينظرون إليهم نظرة دونية، ويستخدمون ألفاظًا جارحة، دون أن يدركوا أن قيمة الإنسان لا تقاس بمهنته، بل بأخلاقه وسعيه ورغبته في العيش بكرامة. إن هذه النظرة الدونية تجعل هؤلاء الكادحين يشعرون بالوحدة في وسط هذا الزحام، وكأنهم عطر يتيم، لا يجد من يشم رائحته الطاهرة، أو يقدّر جهده.
وأنا هنا أقدم دعوة للوعي والتقدير..
يجب أن ندرك أن الكرامة ليست حكرًا على أصحاب الوظائف المرموقة، فكل عمل شريف هو كرامة. لننظر إلى هؤلاء الكادحين بعين الرحمة والتقدير، فهم جزء لا يتجزأ من نسيج مجتمعنا. فلنعتبرهم أصحاب فضل، لأنهم يقومون بأعمال لا يرضى بها الكثيرون، وفيها خدمة للمجتمع. لنكن عونًا لهم بكلمة طيبة، وابتسامة صادقة، ودعاء في ظهر الغيب، ولا نقلل أبدًا من شأنهم، فالله تعالى قد كرّم الإنسان بغض النظر عن لونه أو جنسه أو وظيفته. لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: الآية 13]
تذكر دائمًا أنك لا تعلم الظروف التي يمر بها الآخرون، فكن لهم سندًا لا سببًا في زيادة ألمهم، وتذكر أن ”العطر اليتيم“ في الزحام هو في الحقيقة عطر الكرامة والشرف.