آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:16 ص

فلترها

ياسر بوصالح

حين أتصفح عالم السوشيال ميديا، أظفر بالكثير من الترهات المنسوبة زورًا وبهتانًا إلى سيد البلاغة، الإمام علي بن أبي طالب ، ومن ذلك ما يُروَّج — كذبًا — على أنه من كلامه، وهو قولٌ ركيكٌ هشٌّ لا يليق أن يُنطق به على لسان المرحوم عبدالحسين عبدالرضا أو إسماعيل يس، فضلًا عن أمير المؤمنين . فلو نطق به إسماعيل يس، لضحك الجمهور من خفة العبارة، ولو نطق به عبدالحسين، لقالوا: ”نكتة جديدة من بوعدنان“، أما أن يُنسب إلى من كانت كلماته تُوزن بميزان العقل والحق، فذلك من جنس الجرائم الأدبية التي لا تُغتفر إلا بتوبة لغوية نصوح.

ومن تلك الاقتباسات التي لو نُسبت إلى شخصية في مسلسل تركي بليد، لبدت أكثر اتساقًا مما تبدو عليه حين تُنسب إلى سيد البلاغة:

”إذا رأيت من تحب فابتسم، سيشعر بحبك، إذا رأيت عدوك فابتسم، سيشعر بقوتك، إذا رأيت من تركك فابتسم، سيشعر بالندم، وإذا رأيت من لا تعرفه فابتسم، وستأخذ أجرك.“

كلامٌ لا يُشبه نهج البلاغة، ولا قائله، ولا حتى من يفهم البلاغة. وجزى الله الأستاذ محمد زكريا علي خير الجزاء على سفره الخالد: ”تحذير أهل المجالس والمنابر من نصوص لم أعثر لها على مصادر“ فقد تتبّع فيه مثل هذه الروايات التي تُنسب زورًا إلى الإمام، تحت كل حجر ومدر إلكتروني — إن صحّ التعبير — ليذود عن حمى سيده أبي الحسن ، ذود المحبّ لا المدافع، والعارف لا الناقل، سقاه الله وإيّانا من حوض كوثره يوم الورود، وألحقنا به غير مبدّلين ولا مدّعين.

لكن أصدقكم القول...

ظفرتُ بحكمةٍ هزّتني من الأعماق، وجعلتني أراجع أرشيف مشاعري بحثًا عن تفسير، سيما أنها مؤثرة في معناها، أنيقة في سبكها، تستحق التأمل لا التبجيل، وتستحق أن تُقال لا أن تُنسب، رغم شيوع نسبتها إلى أمير المؤمنين ، إلا أني لم أجد لها أصلًا في المصادر الموثقة:

«لا تُعاشر نفسًا شبعت بعد جوع، فإنّ الخير فيها دخيل، وعاشر نفسًا جاعت بعد شبع، فإنّ الخير فيها أصيل»

وقد ذكّرتني فكرتها بأبياتٍ بديعةٍ للمرحوم الشيخ عبدالعزيز السلمان [1] ، يقول فيها:

تَجَنَّبْ بُيُوتًا شُبِّعَتْ بَعدَ جُوعِهَا
فإنَّ بَقَاءَ الجُوعِ فيها مُخَمَّرُ

وَآوِ بُيُوتًا جُوِّعَتْ بَعْدَ شِبْعِهَا
فإنَّ كَرِيمَ الأَصْلِ لاَ يَتَغَيَّر [2] 

ولعل جمال هذه الحكمة من حيث الدلالة، أنها تقوم على ثنائية ”الشبع بعد الجوع“ و”الجوع بعد الشبع“، وتُحمّل كل حالة دلالة أخلاقية:

الشبع بعد الجوع: يُنتج نفسًا يكون الخير فيها دخيلًا، وربما مشوبًا بالأنانية أو التوتر.

الجوع بعد الشبع: يُنتج نفسًا يكون الخير فيها أصيلًا، نابعًا من كرامة داخلية لا من ردّ فعل ظرفي.

وهذا التصوير يُحاكي تجربة الإنسان في التحوّل: من كان محرومًا ثم نال، قد يُفرط أو يتوتر، ومن كان مرفّهًا ثم حُرم، قد يتجلّى فيه الصبر والكرامة، لكن هذا التعميم، وإن كان شاعريًا، لا يخلو من إشكال، ففي الواقع، هناك من جاع فصار كريمًا، وهناك من جاع فصار قاسيًا، والعبرة ليست في التسلسل الزمني للجوع والشبع، بل في الوعي الذي يُرافقهما، وجريًا على العادة، احتكمتُ إلى التأريخ لأصل إلى رأيٍ نهائي، فرأيت من هذه الشاكلة وتلك.

فمثلًا، يحدثنا التاريخ عن المهلبي، الذي كان في شبابه فقيرًا معدمًا، ضاقت به الحال حتى تمنى الموت حين شمّ رائحة شواء اللحم، فقال ارتجالًا:

ألا موتٌ يُباع فأشتريه
فهذا العيشُ ما لا خيرَ فيه

ثم أتمّها بأبيات حزينة:

ألا موتٌ لذيذُ الطعمِ يأتي
يُخلّصني من العيشِ الكريه

إذا أبصرتُ قبرًا من بعيدٍ
وددتُ لو أنني ممّا يليه

ألا رحمَ المهيمنُ نفسَ حرٍّ
تصدّقَ بالوفاةِ على أخيه

وكان معه رفيقٌ في السفر، فاشترى له بدرهمٍ لحمًا وطبخه له، فهدأت نفسه، وتفرّقا، ومرت الأيام، وتقلّب الزمان، حتى أصبح المهلبي وزيرًا ذا جاه وسلطان، وفي يومٍ، ضاقت الحال بصاحبه القديم، فتذكّره، وكتب له رقعةً فيها:

أتذكر إذ تقول لضنكِ عيشٍ ألا موتٌ يُباع فأشتريه؟

فلما قرأها المهلبي، هزّته أريحية الكرم، وتذكّر الصحبة، فأكرمه.

وفي المقابل، ما يُجاري النص المنسوب لأمير المؤمنين ، نجد في التاريخ نموذجًا آخر:

المنصور الدوانيقي، كان في بداياته فقيرًا معدمًا، حتى قيل إنه كان يقتات من بيع الحطب، ويبيت على الطوى، لكن حين آلت له الزعامة، انقلب إلى نموذج من القسوة والبطش، حتى لُقّب بـ ”الدوانيقي“ لشدة تدقيقه في الأمور المالية، وكان يُحصي على الناس أنفاسهم، ويُلاحق خصومه بلا هوادة، وقد بلغ به الأمر أن حاصر الكعبة في إحدى حملاته، مما يُظهر كيف أن من شبِع بعد جوع، قد لا يكون الخير فيه متجذرًا، بل دخيلًا، مشوبًا بالخوف من الفقر، والرغبة في الانتقام من الماضي.

وأخلص إلى الفكرة النهائية من المقالة بما يُنسب إلى المسيح عيسى «كونوا نقّاد الكلام» [3]  هذه الحكمة، إن صحت نسبتها، تُذكّرنا بأن العقل هو الفلتر الحقيقي، لا العاطفة ولا النسبة، فالأصل أن الفكرة لا تمرّ إلا بدعم، ولا تُقبل إلا بميزان، ولا تُنسب إلا بدليل.

[1]  أحد علماء المملكة العربية السعودية البارزين ولد في عنيزة سنة 1337 وتوفي سنة 1422 هـ

[2]  ذكرها في كتابه موارد الظمآن لدروس الزمان

[3]  الرواية كاملة «خذوا الحق من أهل الباطل، ولا تأخذوا الباطل من أهل الحق، كونوا نقاد الكلام، فكم من ضلالة زخرفت بآية من كتاب الله كما زخرف الدرهم من نحاس بالفضة المموهة، النظر إلى ذلك سواء، والبصراء به خبراء» مستدرك سفينة البحار - الشيخ علي النمازي الشاهرودي - ج 4 - الصفحة 284
التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
عماد آل عبيدان
6 / 9 / 2025م - 6:40 م
كما نفلتر الصورة لتصفو، فلنفلتر حياتنا وأفكارنا وعلاقاتنا لنحيا أوضح وأخف وأنقى.