آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:16 ص

الكذب في زمن الآلة: حين تصبح الأكاذيب أكثر إقناعاً من الواقع

غسان علي بوخمسين

في الماضي كانت الحقيقة تُحكى في المجالس، وتُحفظ في الصدور، وتُروى كأنها إرثٌ لا يُمسّ، كنا نثق بما يُقال لأن من يقوله كان يُدرك ثقل الكلمة. أما اليوم، فقد تغيّر كل شيء. الحقيقة لم تعد تُروى، بل تُصمّم. لم تعد تُكتشف، بل تُبرمج. في عالمٍ تحكمه الخوارزميات، وتُصاغ فيه المشاعر على يد آلات لا تشعر، بات الكذب أكثر إقناعًا من الواقع، وأكثر انتشارًا من الضوء. لقد دخلنا عصر ”ما بعد الحقيقة“، حيث لم تعد الوقائع هي ما يُشكّل الرأي العام، بل العواطف، والانحيازات، وما يُعاد تكراره حتى يُصبح مألوفًا… وإن كان زائفًا.

عالم ”ما بعد الحقيقة“، وهو مصطلح يشير إلى مرحلة تتراجع فيها أهمية الحقائق الموضوعية أمام تأثير العواطف والمعتقدات الشخصية في تشكيل الرأي العام. ورغم ظهوره في التسعينيات، لكنه اكتسب زخمه عام 2016 حين اختارته Oxford Dictionaries كلمة العام، في ظل تصاعد الخطاب السياسي الشعبوي وانتشار المعلومات المضللة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مما زاد من حضوره في النقاشات الفكرية. حينها لا يُهم إن كانت المعلومة صحيحة، بل إن كانت قابلة للتصديق، وإن كانت تُرضي التحيّزات، وتُشبع الرغبات. وهنا تتجلّى خطورة الذكاء الاصطناعي: ليس في قدرته على الكذب، بل في قدرته على تضخيم الكذب، وتوزيعه، وتقديمه في قالبٍ جذّاب يصعب مقاومته.

في كتابه اللافت ”تاريخ الكذب“، لا يقدّم جاك دريدا سردًا تقليديًا للكذب بوصفه نقيضًا للحقيقة، بل يغوص في أعماق اللغة، ويكشف كيف أن الكذب ليس مجرد انحراف عن الصدق، بل هو بنية ثقافية وفلسفية متجذّرة في خطاب الإنسان. الكذب، كما يراه دريدا، ليس فعلًا هامشيًا، بل هو جزء من نسيج التواصل ذاته، يتسلل إلى اللغة، ويختبئ خلف النوايا، ويُعيد تشكيل الواقع كما نشتهيه، لا كما هو.

لكن، ماذا يحدث حين يُضاف إلى هذه المعادلة عنصراً جديداً؟ عنصر لا يشعر، ولا يكذب كما يكذب الإنسان، لكنه قادر على إعادة إنتاج الأكاذيب بسرعة الضوء! هنا يدخل الذكاء الاصطناعي، لا بوصفه مجرد أداة، بل كفاعل جديد في مسرح الحقيقة. لقد باتت الخوارزميات قادرة على كتابة الأخبار، وتوليد الصور، وتزوير الأصوات، بل وحتى محاكاة المشاعر. ومع كل تطور تقني، يتسع الفارق بين ما هو حقيقي، وما هو مُصنّع بإتقان.

كلنا نتذكر حين انتشرت خلال جائحة كوفيد -19 معلومات مضللة حول اللقاحات، بعضها نُشر عبر مقاطع فيديو مزيفة تُظهر ”أطباء“ يتحدثون بثقة، وبعضها عبر صور مفبركة تُظهر ”ضحايا“ مزعومين. هذه المعلومات، التي غالبًا ما تُنتجها خوارزميات مدرّبة على استهداف الانفعالات، ساهمت في تراجع الثقة بالعلم، وفي تأخير جهود التطعيم، وفي تعميق الانقسام بين المجتمعات.

ظاهرة شيوع الأفكار المضللة ليست وليدة اليوم، لكنها وجدت في الذكاء الاصطناعي حليفًا لا يُضاهى. فبفضل تقنيات التعلم العميق، يمكن الآن توليد محتوى زائف يبدو أكثر إقناعًا من الحقيقة ذاتها. يمكن لفيديو مُفبرك أن يُشعل حربًا، ولمقال مزوّر أن يُغيّر نتائج انتخابات، ولصورة مُعدّلة أن تُعيد تشكيل الذاكرة الجمعية لأمة بأكملها.

من هنا يتضّح أن للتضليل الإعلامي آثار سلبية وخطيرة، منها:

1. تشويه الإدراك العام

• يُعيد التضليل صياغة الحقائق، مما يؤدي إلى تكوين تصوّرات خاطئة لدى الجمهور حول قضايا سياسية، صحية، أو اجتماعية.

• مثلًا، انتشار معلومات مغلوطة عن اللقاحات أدى إلى تراجع نسب التطعيم في بعض المجتمعات، رغم الأدلة العلمية على فعاليتها.

2. إثارة الانقسام المجتمعي

• يُستخدم التضليل أحيانًا لتغذية الانقسامات الطائفية أو العرقية أو الأيديولوجية.

• عبر منصات التواصل، يمكن لمحتوى مضلل أن يُضخّم الخلافات ويُحوّلها إلى صراعات حقيقية، كما حدث في بعض الحملات التي استهدفت مجموعات معينة لتأجيج الكراهية.

3. زعزعة الثقة بالمؤسسات

عندما تنتشر أخبار كاذبة عن فساد أو تلاعب في مؤسسات الدولة أو الإعلام، حتى لو كانت غير صحيحة، فإنها تُضعف ثقة الناس بتلك الجهات.

• هذا يُؤدي إلى تراجع المشاركة المدنية، مثل الامتناع عن التصويت أو رفض الالتزام بالقوانين.

4. تأثيرات صحية ونفسية

التضليل في المجال الصحي، خصوصًا عبر منصات مثل TikTok, قد يُروّج لعلاجات غير مثبتة علميًا أو يُشكك في فعالية العلاجات المعتمدة.

• هذا يُعرّض الأفراد لمخاطر صحية، ويُفاقم القلق والارتباك النفسي، خاصة لدى الشباب.

5. إرباك عملية صنع القرار

• في بيئة مشبعة بالمعلومات المتضاربة، يصعب على الأفراد التمييز بين الصحيح والمضلل.

• هذا يُضعف القدرة على اتخاذ قرارات مستنيرة، سواء في الشأن العام أو الحياة اليومية.

لكن السؤال الأهم ليس كيف نُكافح هذه الظاهرة، بل كيف نفهمها. كيف نُعيد تعريف الحقيقة في زمنٍ لم تعد فيه المعلومة نادرة، بل غزيرة، ومُشبعة، ومُصمّمة خصيصًا لتُخاطب أهواءنا؟ كيف نُعيد بناء الثقة في خطابٍ عام بات هشًّا، ومُخترقًا، ومُلوّثًا؟

ربما يكون الجواب في العودة إلى الإنسان ذاته. إلى قدرته على الشك، والتأمل، والتمييز. إلى حسّه الأخلاقي، وإرادته الحرة، ووعيه النقدي. فالذكاء الاصطناعي، مهما بلغ من تطوّر، لا يملك ضميرًا، ولا يعرف معنى المسؤولية. إنه يُعيد إنتاج ما نُغذّيه به، ويُضخّم ما نُكرّره، ويُعيد تشكيل العالم وفقًا لما نُريده، لا وفقًا لما هو عليه.

في هذا السياق، يصبح الكذب ليس مجرد فعل فردي، بل ظاهرة جماعية، تُغذّيها التقنية، وتُشرعنها الثقافة، وتُعيد إنتاجها السياسة. ويصبح الدفاع عن الحقيقة ليس مهمة الصحفي فقط، بل مهمة كل فرد، كل قارئ، كل مستخدم للإنترنت، وكل من يملك القدرة على التمييز بين ما يُقال، وما يُقصَد، وما يُخفى.

فالحقيقة، في نهاية المطاف، ليست ما يُقال، بل ما يُبحث عنه. ليست ما يُقدّم لنا على طبقٍ جاهز للاستهلاك والتناول، بل ما نُنتزعه من بين ركام الأكاذيب، وما نُدافع عنه، وما نُعيد بناؤه، كل يوم، وكل لحظة.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
عماد آل عبيدان
6 / 9 / 2025م - 6:38 م
تُحاك الأكاذيب اليوم بمهارة تجعل الوهم أبهى من الواقع. الخطر لم يعد في الكاذب وحده، تجده في الآلة التي تسرّع كذبه وتمنحه أجنحة. التحدي أن نصون وعينا: نقرأ ما وراء السطور، نختبر كل رواية بالعقل، ونوجّه التقنية بوعي كي لا تسلبنا الحقيقة.