آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:17 ص

حتى كوب القهوة بالأقساط

رفاهية اليوم.. ديون الغد!

هاشم الصاخن *

انتشر في السَّنوات الأخيرة نوع من المنصَّات المالية التي تتيح للنَّاس شراء ما يريدون ودفع قيمته لاحقًا على شكل أقساط صغيرة، وهي منصَّات معروفة بين النَّاس اليوم وقد سهَّلت عمليات الشِّراء بدرجة غير مسبوقة. ولأسباب قانونيَّة وأدبيَّة لا نريد ذكر أسماء هذه الشَّركات، لكن القارئ الكريم يعرفها جيدًا ويشاهد إعلاناتها يوميًا.

ما نود التَّوقف عنده ليس وجود هذه المنصَّات بحدِّ ذاتها؛ فهي تقدِّم خدمة قانونيَّة ومصرَّح بها، بل السُّلوك الاستهلاكي الجديد الذي أصبح يتكوَّن عند الأفراد والأسر بسبب سهولة التَّعامل معها؛ حيث تحوَّل شراء أي سلعة - سواء كانت ضروريَّة أو كماليَّة، نافعة أو غير ذات جدوى - إلى أمر في متناول اليد بضغطة زر، حتَّى لو لم يكن الشَّخص بحاجة فعليَّة إليها. وهنا يبدأ السُّؤال الجوهري: هل وفَّرت هذه المنصَّات رفاهيَّة صحيَّة للمجتمع، أم أنَّها فتحت بابًا واسعًا للديون غير الضَّرورية وضغطًا ماليًا متزايدًا على الأسر؟

الآثار السَّلبية:

أوَّل ما يثير الاستغراب أنَّ هذه المنصَّات لم تعد وسيلة لاقتناء السِّلع الكبيرة أو الضَّروريات؛ وإنَّما تسلَّلت إلى تفاصيل حياتنا اليوميَّة. ومثال ذلك: أنَّك تجد شخصًا يدفع ثمن كوب قهوة في مقهى أو طبق عشاء فاخر في مطعم عن طريق الأقساط! فهل وصل بنا الحال إلى أن نجزّئ قيمة قهوة أو وجبة فارهة؟ وهذا المشهد يكشف أنَّ المسألة لم تعد تلبية حاجة؛ بل إدمان على الاقتراض وتعلّق غير صحِّي بخدمة التَّقسيط.

ولم يتوقف الأمر عند حدود المقاهي والمطاعم؛ بل أصبح جزءًا من حياتنا اليوميَّة من دون أن نشعر. وتخيَّل نفسك مستلقيًا على الكنبة في منزلك، بانتظار وجبة الغداء، وبينما تتصفح هاتفك يظهر إعلان لسلعة بسيطة لا تحتاجها أصلًا، لكن بمجرد أن ترى عبارة: ”قسطها بـ 20 أو 30 ريالًا فقط“، يسيطر عليك الفضول وتندفع لشرائها! هذه الصُّورة ليست خيالًا؛ بل واقع يعيشه كثيرون، حيث تتبدل الرَّغبات العابرة إلى التزامات حقيقيَّة بسبب إغراءات الأرقام الصَّغيرة.

لكنَّ السّلبية لا تتوقف عند هذا الحدِّ. وتتعداها إلى:

1. إضعاف ثقافة الادخار: حينما يتعوَّد الإنسان أن يشتري كلَّ ما يرغب به حتَّى لو لم يكن محتاجًا إليه، فإنَّه يفقد عادة التَّريُّث والتَّفكير قبل الصَّرف. ويصبح الادِّخار خيارًا ثانويًا، ويصير المستقبل إلى رهينة لالتزامات الحاضر.

2. تراكم الدُّيون الصَّغيرة: كلُّ قسط شهري يبدو بسيطًا؛ لكنه عند جمعه يتحوَّل إلى عبء كبير، خاصَّة حين تكون على أكثر من سلعة أو خدمة. وكثير من الأسر محدودة الدَّخل لا تشعر بحجم الالتزام إلَّا عند نهاية الشَّهر؛ حين تكتشف أنَّ نصف دخلها موزَّع على أقساط متفرِّقة.

3. ضغوط نفسيَّة واجتماعيَّة: الدُّيون المتراكمة تولِّد قلقًا مستمرًا وتوتّرًا داخل الأسرة. وربما يدفع الفرد إلى إخفاء حجم التزاماته عن أسرته، فتتضاعف المشاكل مع مرور الوقت.

4. تشجيع على الاستهلاك الكمالي: حين يستطيع الفرد أن يشتري كلَّ ما يلفت نظره بسهولة، فإنَّ معيار ”الحاجة“ يتلاشى، ويحلّ مكانه معيار ”الرَّغبة“. وهكذا يقتني أشياء قد لا يستخدمها إلَّا مرَّة أو مرَّتين فقط؛ لأنه استطاع دفع ثمنها مؤجلًا.

5. انزلاق محدودي الدَّخل والعمالة البسيطة: الأخطر أنَّ الظَّاهرة لم تبقَ محصورة في فئة معيَّنة؛ بل وصلت إلى أصحاب الدَّخل المحدود، وحتَّى إلى بعض العاملات المنزليات. وهؤلاء حين ينزلقون إلى هذا النَّمط، فإنَّ الخروج منه يكون أصعب؛ لأنَّ الالتزامات تفوق طاقتهم الحقيقيَّة.

الآثار الإيجابية:

على الرَّغم ممَّا سبق من سلبيات واضحة، لا يمكن إنكار أنَّ هذه المنصَّات قدَّمت فرصة حقيقيَّة لشريحة واسعة من المجتمع؛ فسهولة الأقساط مكَّنت الكثير من النَّاس من تلبية احتياجاتهم الضروريَّة من دون انتظار طويل أو ضغط مفاجئ على ميزانية الأسرة.

1. تمكين أصحاب الدَّخل المحدود: بعض الأسر التي لا تستطيع دفع المبلغ كاملًا دفعة واحدة، أصبح بإمكانها اقتناء ضروريات مثل الأجهزة المنزليَّة أو الأدوات التَّعليميَّة للأبناء، من خلال تقسيم المبلغ إلى دفعات ميسرة.

2. تحقيق نوع من العدالة الشرائية: لم تعد القدرة على الشراء حكرًا على من يملكون السُّيولة، وأصبح المجال مفتوحًا للمواطن والمقيم بشكل قانوني، ممَّا قلَّل الفجوة بين الفئات الاجتماعيَّة في بعض الجوانب.

3. تنشيط الاقتصاد المحلي: هذه المنصَّات ساعدت على زيادة الحركة التِّجاريَّة، ووفرت سيولة فوريَّة للتجار، وفي الوقت ذاته منحت المستهلك مرونة أكبر في الدَّفع، وهو ما انعكس على حركة السُّوق.

4. التيسير في الأزمات والالتزامات الضَّروريَّة: أحيانًا يحتاج الفرد لشراء سلعة ضروريَّة أو إصلاح عاجل في المنزل، ولا يملك المبلغ الكافي فورًا. كذلك الحال مع تأمين السيارات، وهو التزام إلزامي وقد يصعب دفعه دفعة واحدة، فجاءت هذه المنصات لتوفِّر خيار التَّقسيط. والأمر ذاته ينطبق على بعض طلاب الجامعات الذين قد يحتاجون لتقسيط ثمن كتب دراسيَّة باهظة، أو الالتحاق بمعهد لتعلُّم اللغة الإنجليزيَّة، وهو ما يساعدهم على تطوير مستواهم العلمي من دون أن يشكّل عبئًا ماليًا خانقًا على أسرهم.

5. تجربة مالية حديثة: كثيرون يرون في هذه المنصَّات خطوة نحو مواكبة التَّطور المالي العالمي، حيث باتت جزءًا من أنماط الاستهلاك الحديثة، وهو ما يمنح المستهلك شعورًا بالمساواة مع المجتمعات الأكثر تقدمًا.

وبعد هذه الجولة المعرفيَّة نصل إلى حقيقة هي:

إنَّ منصّات الإقراض للمبالغ الصَّغيرة مثل السيف ذي الحدَّين؛ قد تكون بابًا للتيسير والمرونة حين تُستخدم في موضعها الصَّحيح؛ لكنَّها تنقلب إلى عبء خانق حين تُستغل لإشباع الرَّغبات العابرة. نحن بحاجة إلى وعي مالي يحفظ ميزانيات الأسر من الانزلاق، ويجعل هذه الخدمات وسيلة للعيش الكريم لا للركض وراء الوهم الاستهلاكي.

ولعلّ أجمل ما نختم به كلمات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : ”مَنْ لَمْ يُحْسِنِ الِاقْتِصَادَ أَهْلَكَهُ الْإِسْرَافُ“ ”غرر الحكم ودرر الكلم: ص 602“.

فالحكمة الماليَّة ليست في وفرة المال بقدر ما هي في حُسن تدبيره، والقدرة على التَّمييز بين الحاجة الحقيقيَّة والرَّغبة العابرة.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
عماد آل عبيدان
6 / 9 / 2025م - 6:24 م
حتى كوب القهوة صار بالأقساط!
صرنا نحتسب الدفعات بدلًا من ارتشاف الطعم. القهوة كانت دافئة ببيوتنا، تُصب و تشرب مع السوالف والحكايات، واليوم تُباع على هيئة عقد تمويل قصير الأجل! لعلنا بحاجة أن نعيد لها بساطتها: رشفة حب، لا بندًا في الفاتورة
سيهات