من عبق الماضي: ”الشبّة“ بين دفء الطقوس وروح الذكريات
عبارة اعتادها الصغار في بيوت الأمهات والجدات «الشبّة شبّة، وأمّ الحسد منجبة» ترافق نسمات المبخر وتتسلل كهمسة بين خيوط الدخان حيث كانت الطقوس التراثية القديمة تلتقي بالإيمان الشعبي ويصبح العلاج النفسي والروحي جزءا من يوميات الناس دون أن يُفصل عن عقيدتهم أو حبهم للسلام.
في ظاهرها مادة بلورية بيضاء تشبه حجر الملح لكنها في الموروث الشعبي نافذة لدرء الحسد وردّ العين وطرد الأرواح الخبيثة، لم تكن تُستخدم منفردة بل تُخلط مع لبان الذكر والحبّة السوداء وأحيانا الحرمل وتوضع جميعها على جمرٍ مشتعل في مبخرة من نحاس يتصاعد منها دخان كثيف برائحة مميزة تملأ المكان دفئا وغموضا.
كانت أمهاتنا ولا زلن يُدخِّنّ بها أركان البيوت يمررن المبخرة حول رؤوس الأطفال أو على أثاث المنزل ويرددن آيات قرآنية وأدعية تُغلف تلك اللحظة بهالة من الطمأنينة، لا سيما حين يُشتَرى بيت جديد أو سيارة أو حتى في مناسبات الفرح التي يُخشى فيها من أعين الحاسدين.
رغم أن هذه العادات تبدو للكثيرين ضربا من التراث الشعبي أو مجرّد خرافات موروثة، إلا أن في بطون كتب التراث الإسلامي إشارات تثبت أن لهذه المواد أثرا حقيقيا، ففي كتاب مكارم الأخلاق يُروى عن الإمام الصادق : ما قل له عرق في الأرض ولا ارتفع له فرع في السماء إلا وكل الله عز وجل به ملكاً حتى يصير حطاماً أو يصير إلى ما صار إليه، فإن الشيطان قد يتنكب سبعين داراً دون الدار التي فيها الحرمل، وهو شفاء من سبعين داء أهونه الجذام، فلا يفوتنكم.
أما عن اللبان فقد قال : هو مختار الأنبياء، وبه كانت تستعين مريم، وليس دخان يصعد إلى السماء أسرع منه، وهو مطردة الشياطين ومدفعة للعاهة. وفي حديث عن الإمام الرضا
: ما من بخور يصعد إلى السماء إلا اللبان، وما من أهل بيت يتبخر فيه باللبان إلا نُفِي عنهم عفاريت الجن. هذه الأحاديث ليست أساطير، بل إشارات تدل على البعد الروحي لمواد بسيطة في ظاهرها، لكنها عميقة في تأثيرها، حين تُستخدم بنيّة صافية وبإيمان بالله، هذه الأحاديث موجودة في مصادر الكتب مثل ”بحار الأنوار“ للعلامة المجلسي و”مكارم الأخلاق“ للشيخ الطبرسي.
حين كان الطفل يصرخ دون سبب، أو يُصاب بالحمّى فجأة، كانت الأم تقول: ”أظنه محسود جيبوا الشبة“!! وتُعد المبخرة وتبدأ الطقوس تطواف حول الطفل، يتبعها دعاء أو ترتيل وأحيانا يُلقى بالشبّة في الجمر لتتصاعد منها رسومات غريبة تُفسّرها الجدات على أنها صورة ”العين“ التي أصابت الطفل، لم يكن لذلك أساس علمي لكن كان له أثر في التخفيف عن الأهل وكأنهم وجدوا مسببا للمرض وبدأوا علاجه، وكانت هناك أناشيد ترافق هذا المشهد، كنوع من الرقية الشعبية، منها:
• عوذتچ بالله يا؟؟؟؟؟
• حوطچ برسول الله من عين خلق الله
• حوطچ بالوصي علي من عين كل مخلوقٍ ردي
• حوطچ بالله الواحد من عين كل حاسد
• عين الصبي فيها نبي
• وعين الذكر فيها حجر
• وعين الحسود فيها عود
• وعين الجار مقلوعة بنار...
كل سطر من هذه العبارات كان يحمّل في أعماقه خوفا دفينا على الأحباب وسعيا لحمايتهم بوسائل بسيطة لكن مليئة بالإيمان.
لم تكن هذه المكونات للزينة أو للرائحة فحسب بل كانت تُعرف بأنها مطهّرات للجو ومعقّمات طبيعية، فاللبان كما يقول أهل البيوت ”ريحته خنينة“ أي زكية تملأ المكان بسكينة فريدة يُقال إنها تمنع حتى تقلبات النفس وسوء الخاطر، أما الحرمل فقد كان يُنثر أحيانا في أركان المنزل أو يوضع في ركن الغرفة لطرد الجن وكانت النساء يضعنه في جيوب الأطفال أو يخيطونه في قطعة قماش صغيرة تُعلّق على الرقبة.
ما كانت تفعله أمهاتنا لم يكن بدعة ولا أوهاما بل كان مزيجا بين تجارب الأجداد ونصوص الروايات ورغبة داخلية في الحماية حين كانت الأم تُبخّر أبناءها وتهمس بأدعية من القلب، لم تكن تحاول تسخير السحر بل كانت تطلب اللطف والستر وتلتمس الطمأنينة في عالم يُرى ولا يُرى.
وما أجمل أن نتذكّر تلك اللحظات: حين كانت أمهاتنا يدُرن حولنا بالمبخرة والهواء محمّل بدخانٍ له رائحة الخشب واللبان والحبّة السوداء لخ، وكأن دعاء صاعدا يُزيل عنا غبار الحزن ويترك مكانه للسكينة.
الشبّة ليست مجرد حجر أبيض ولا هو مجرد طقس شعبي منسي بل هو جزء من تراثٍ حيّ نحمله في ذاكرتنا وفي رائحة البيوت حين تُبخّر وفي طمأنينة قلوبنا عندما نستنشق عبق اللبان في وقت ضيق، فلتبقى هذه الطقوس لا لأنها ضرورية دائما بل لأنها تذكّرنا بأمهاتنا وببيوتنا حين كانت الأبواب مفتوحة والقلوب مطمئنة والدخان الطيب يُصعد الدعاء إلى السماء.