الصندوق الأسود
ماذا نخفي في أعماقنا؟
حين تسقط الطائرة، يتسابق الخبراء إلى الصندوق الأسود ليعرفوا ما حدث، كيف بدأت المشكلة، ولماذا انتهت الكارثة. لكن هذا الصندوق لا يُفتح إلا بعد فوات الأوان. والسؤال: ماذا لو كان لكل واحدٍ منا صندوق أسود خاص به، يسجل تفاصيل حياته وعثراته وخيباته؟ هل نجرؤ على فتحه ونحن أحياء، قبل أن يثقل أرواحنا ويُدفن معنا؟
كل إنسان يحمل داخله صندوقًا أسود، قد لا يراه أحد، لكنه يختزن قصصًا كثيرة: لحظات ضعف، قرارات ندم، علاقات انكسرت، أخطاء لم تُصحح، وذنوب لم يُطلب غفرانها. البعض يترك صندوقه مغلقًا حتى يتحول إلى عبء يجره من ماضيه إلى حاضره، فيظل أسيرًا لذكريات مؤلمة. والبعض الآخر يمتلك شجاعة الفتح، فيراجع ما فيه، يستخلص الدروس، يغفر لنفسه ولغيره، ويعيد ترتيب مساره قبل أن تتكرر الكارثة.
فتح الصندوق الأسود للنفس ليس ضعفًا بل قوة. أن تقف مع نفسك بصدق، بلا تبرير ولا إنكار، فتقرأ تفاصيل العثرات وتستخلص منها الحكمة. وكما تُحلل لجان التحقيق بيانات الطائرات لتمنع سقوطًا جديدًا، فإننا حين نحلل بيانات نفوسنا، نمنع تكرار الأخطاء ونكتب مستقبلًا أكثر وعيًا ونضجًا.
لكن الصندوق الأسود لا يتعلق بالنفس فقط، بل بالروح أيضًا. فكل ما نخفيه اليوم سيبقى محفوظًا في أعماقنا حتى نواجه به خالقنا. لذلك، فإن مراجعة هذا الصندوق هي نوع من التوبة المبكرة، وفرصة لرد الحقوق إلى أهلها، وتنقية القلب من ثقل الذنوب قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه ندم. وقد أوصى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حين قال: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا.»
كم مرة أخطأت بحق نفسك أو غيرك وتركت الأمر يترسخ في أعماقك؟ أليس أجمل أن تواجه الحقيقة اليوم بإرادتك، بدل أن تُكشف عنك غدًا وأنت راحل؟ إن الله وهبنا فرصة نادرة، أن نفتش في صناديقنا ونحن أحياء، بلا رقيب ولا سلطة، سوى ضميرنا وإرادتنا في الإصلاح.
الصندوق الأسود ليس لعنة نخفيها، بل هدية تذكّرنا أن نبدأ من جديد. فلنفتحه الآن، ونحوّل ذكرياتنا إلى دروس، وذنوبنا إلى توبة، وأخطاؤنا إلى قوة. لأن أعظم كارثة يمكن أن تقع ليست ما جرى بالأمس، بل أن نترك صندوقنا مغلقًا حتى النهاية