فضيلة التواضع
يتوق كل إنسان أن يملك ما يجعله مميزًا بين الناس، صادق الحضور، قريبًا إلى القلوب، محبوبًا بلا تكلف. ومن أجمل ما يطمح إليه المرء أن يُعرف بخلقه الرفيع ولطف معشره، حيث تتفتح له القلوب قبل الأبواب. لكن الحقيقة أن هذه المكانة ليست مجرد هبة عابرة يولد بها البعض ويُحرم منها آخرون، بل هي ثمرة سلوك يومي وتربية مستمرة للنفس، تقوم على البساطة والتواضع وحسن الظن.
فالناس لا يقتربون منك لأنك مختلف وراثيًا، بل لأنك تعاملهم بودّ، تُشعرهم أنهم مرئيون ومُهمون، تفتح لهم صدرك بابتسامة صادقة، وتصغي إلى حديثهم باهتمام، دون أن تستأثر بالمشهد كله. إن معظم البشر يحبون أن يتحدثوا عن ذواتهم، وهنا يبرز دورك في أن تكون مُنصتًا جيدًا، يلتقط الكلمات ويحتفظ بأثرها، ويُضيف إليها لمسة من الدفء والاحترام.
لكن المشكلة تبدأ حين نتوقع أن يعاملنا الآخرون بمثل ما نعاملهم به، فإذا خذلونا أو قابلوا لطفنا بجفاء، سرعان ما نستسلم لليأس. بينما التجارب، مهما قست، تُصقل وعينا وتعلمنا أن المحبة ليست مقايضة، وأن العمل الصادق لا يفقد قيمته حتى لو لم يُردّ إلينا. أنت لا تُحسن لأنهم أحسنوا، بل لأن ذلك يعكس من تكون حقًا.
غير أن ثمة من يقعون في خطأ آخر.. الانشغال الدائم بمتابعة عثرات الناس كأنهم ملائكة أوصياء على نقاء المجتمع. هؤلاء يراقبون كل صغيرة وكبيرة في حياة الآخرين، يعلّقون ويتدخلون ويجرّحون، بينما يغفلون عن أنفسهم وما تحمله من نقائص وزلات. وكأنهم ينسون أنهم بشر مثل سواهم، وأن الأولى بهم أن يصلحوا ما فسد في ذواتهم قبل أن يتطاولوا على غيرهم.
إن البداية الحقيقية تكمن في أن يبدأ كل إنسان بنفسه، أن يراقب كلماته وتصرفاته، أن يتحمل مسؤولية خطئه قبل أن يشير إلى أخطاء الآخرين. التواضع هنا ليس مجرد خُلق اجتماعي، بل هو وعيٌ بأننا لسنا معصومين، وأن الاعتراف بضعفنا البشري يمنحنا القوة لنكون أكثر عدلًا ورحمة.
في أيامنا هذه كَثُر اللوم والتشكي، وبات من السهل أن نَغرق في ردات الفعل السلبية. غير أن الطريق الأصوب هو أن ندفع أنفسنا والآخرين نحو التفكير الإيجابي، ونحو خَلق بيئة قائمة على الاحترام بدل الريبة، وعلى المحبة بدل الحقد والغيرة.
في النهاية يكفي أن نُذَكّر أنفسنا بين الحين والآخر، أن العظمة الحقيقية لا تُقاس بكثرة الكلام، بل بالقدرة على أن نعيش بين الناس بِوُدّ، ونسعى إلى ترميم ذواتنا قبل أن نسعى إلى إصلاح غيرنا.