آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:17 ص

التحول الرقمي والاقتصاد الصحي: سباق مع الزمن والمملكة في طليعة المبادرة

عاطف بن علي الأسود *

في ظل التحولات الاقتصادية المتسارعة التي يشهدها العالم، ومع تصاعد أهمية الاقتصاد الرقمي كأداة رئيسية للنمو والتنافسية، لم يعد الانخراط في الثورة التكنولوجية رفاهية، بل أصبح ضرورة وجودية للدول الطامحة لترسيخ مكانتها على الساحة الدولية. فاليوم، لم تعد الموارد الطبيعية وحدها كافية لتحقيق الازدهار، بل أصبحت المعرفة والبيانات والابتكار التكنولوجي هي المحركات الحقيقية للاقتصادات الحديثة.

المملكة العربية السعودية، برؤيتها الطموحة 2030، أدركت مبكرًا أن الاستعداد للمستقبل يبدأ اليوم، وأن مواكبة التحولات الرقمية لا تهدف فقط إلى تحسين الكفاءة، بل تتجاوز ذلك نحو بناء اقتصاد متنوع ومستدام يرتكز على التكنولوجيا والمعرفة. وقد انعكس هذا الفهم العميق في حزمة من المبادرات والسياسات التي أعادت تشكيل البنية الاقتصادية، ووضعت التقنية في صميم العمل التنموي.

ففي مختلف القطاعات، برزت المملكة كقوة صاعدة في تبني التكنولوجيا الحديثة. ويبرز ذلك من خلال إطلاق الاستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي، والتي تستهدف ريادة المملكة في مجالات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والبيانات الضخمة والحوسبة السحابية، إلى جانب تأسيس الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي «سدايا»، التي تمثل الذراع التقنية في قيادة هذا التحول النوعي. كما يعد مشروع مدينة نيوم أحد أبرز الشواهد على تطلعات المملكة لمستقبل ذكي، إذ يُعد نموذجًا عالميًا للتكامل بين الإنسان والتقنية في بيئة مستدامة.

وتتجلى بصمة التحول الرقمي بشكل ملموس في القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم، حيث أصبحت المملكة نموذجًا يحتذى به في توظيف التقنية لخدمة الإنسان. ففي القطاع الصحي، لعبت المنصات الرقمية مثل ”صحتي“ و”توكلنا“ و”موعد“ دورًا محوريًا في تحسين كفاءة الخدمات الطبية وتسهيل الوصول إليها، إلى جانب استخدام الذكاء الاصطناعي في التشخيص وتحليل البيانات، مما منح المملكة إشادات دولية خلال إدارتها لجائحة كوفيد -19. أما في التعليم، فقد أثبتت منصات مثل ”مدرستي“ و”إثرائي“ وجامعة الملك سعود الإلكترونية فاعليتها في تحقيق نقلة نوعية، أتاحت التعليم الذكي والمفتوح، خاصة خلال فترات الأزمات.

وراء هذه النجاحات تقف عقول سعودية مبدعة، من مبتكرين وأصحاب براءات اختراع، أسهموا في تطوير أدوات رقمية حصدت جوائز دولية، وعززت مكانة المملكة كمركز للمعرفة والتقنية في المنطقة. وما كان لهذا النجاح أن يتحقق لولا الدعم الكبير من القيادة للمواهب الوطنية، وتحفيزها على الابتكار والإبداع، ضمن بيئة حاضنة تستثمر في الإنسان قبل كل شيء.

وفي سياق أوسع للتنمية المستدامة، برزت مفاهيم الاقتصاد الصحي «Health Economy» ومحاسبة البيئة «Environmental Accounting» كأدوات فعالة في تعزيز جودة الحياة. فقد أصبح يُنظر إلى الصحة العامة ليس فقط كمطلب إنساني، بل كعنصر محوري في قوة الاقتصاد، فكلما ارتفعت مؤشرات الصحة في المجتمع، انخفضت التكاليف العلاجية، وارتفعت معدلات الإنتاجية. ولهذا، تبنّت المملكة العديد من المبادرات التي تعزز نمط الحياة الصحي، كتوسيع الرقعة الخضراء، وتشجيع الرياضة المجتمعية، وتحسين أنظمة الغذاء والمياه.

أما محاسبة البيئة، والتي تعني قياس الأثر البيئي للأنشطة الاقتصادية، فقد أصبحت من ركائز السياسات البيئية في المملكة، حيث تُبذل جهود حثيثة لتقليل الانبعاثات والتلوث، وتحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية وحماية البيئة. ويزداد الأثر الإيجابي لهذه السياسات عندما يتكاتف المواطن مع الدولة، في الحفاظ على البيئة والمرافق العامة، إذ إن كل سلوك إيجابي في هذا الاتجاه ينعكس بشكل مباشر على صحة المجتمع، ويقلل من انتشار الأمراض، ما ينعكس بدوره على قوة الاقتصاد وجودة حياة الأفراد.

ومن مظاهر النضج الاقتصادي والاجتماعي التي تشهدها المملكة، ما تحقق في ملف تمكين المرأة، حيث أصبحت شريكة فعلية في عملية التنمية وصنع القرار. فقد تولت المرأة السعودية مناصب قيادية في مختلف المجالات، وأسهمت بجانب الرجل في رسم السياسات وصناعة المبادرات، ضمن بيئة عمل تعزز العدالة والتمكين. ولم يكن لهذا التحول التاريخي أن يتم لولا الدعم المستمر من القيادة الرشيدة، وإيمانها بقدرات المرأة كشريك فاعل في بناء المستقبل.

ورغم ما يواجه العالم من تحديات وتقلبات اقتصادية، فإن المملكة أثبتت قدرتها على تحويل التحديات إلى فرص تنموية، بفضل قيادة حكيمة جعلت من تطوير الإنسان وتنمية الاقتصاد وتمكين التقنية أهدافًا استراتيجية لا تحتمل التأجيل. وبوجود موارد مالية وبشرية ضخمة، وشباب طموح يتقن أدوات المستقبل، تسير المملكة بخطى واثقة نحو تحقيق مكانة عالمية مرموقة.

هذا الحراك التنموي المتسارع يستدعي من الجميع الالتفاف حول القيادة، والعمل بروح المسؤولية، واستثمار الموارد المتاحة في بناء وطن قوي واقتصاد مبتكر. فالدولة توفر البيئة المناسبة للإبداع والابتكار، ويبقى على المواطن والمؤسسات دور أساسي في التفاعل والمساهمة الفاعلة.

لقد قطعت المملكة شوطًا كبيرًا في مسيرة التحول الرقمي والاقتصادي والصحي، بفضل استراتيجيات طموحة تضع الإنسان في قلب التنمية، وتبني مستقبلًا قائمًا على المعرفة والتقنية والاستدامة. ويظل تمكين المرأة، وتحفيز الابتكار، والاهتمام بالصحة والبيئة، ركائز رئيسية في هذا البناء الوطني المتكامل.

ومع هذا الزخم المتنامي، والإرادة السياسية الداعمة، والكفاءات الوطنية المبدعة، تمضي المملكة بثقة نحو ترسيخ موقعها كقوة اقتصادية رقمية وصحية رائدة على المستوى الإقليمي والعالمي. فالمستقبل يُصنع اليوم، وما نشهده من تحولات ليس سوى بداية لمرحلة أكثر إشراقًا، عنوانها: الشراكة، والتمكين، والابتكار.

دراسات عليا اقتصاد صحي