آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 12:10 ص

أوهام القوة وأوهام النصر

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

نستعير عنوان هذا الحديث من كتاب الأستاذ محمد حسنين هيكل، الذي تناول فيه حرب الخليج الثانية. والعنوان يظل صالحاً عند تناول ما يجري الآن في غزة ولبنان وسوريا، من اعتداءات مستمرة، تشنّها إسرائيل، على أهلنا في هذه الأقطار، وبدعم وإسناد كاملين من قبل الإدارة الأمريكية، ورئيسها دونالد ترامب. هذا الأسبوع، حافل بعدة أحداث، لعل أهمها الخروقات المستمرة من قبل إسرائيل، لاتفاقية وقف إطلاق النار في لبنان، التي تمت بوساطة أمريكية، وصدّقت عليها الأمم المتحدة. وذلك ما يعني اعتداء على مفهوم السيادة، في هذا البلد، الذي يروّج له كثيراً في هذه الأيام.

والأغرب أن يتزامن العدوان المستمر على سيادة أرض الأرز، مع زيارة مبعوث الرئيس الأمريكي توم باراك إلى لبنان، مطالباً بنزع سلاح حزب الله، وتأكيد سيادة الحكومة اللبنانية على البلاد. وهنا نقول إن من المفترض في المبعوث الأمريكي، أن يمنع العدوان المستمر على لبنان، وأن تطرح بجدية مسألة تسليح الدولة اللبنانية، لمستوى تكون فيه قادرة على صد الاعتداءات المتكررة على أراضيها. ومن غير ذلك، يكون نزع السلاح، أشبه بتقديم العربة أمام الحصان، وهو ما يتعارض جذرياً مع مبدأ السيادة التي تدعو له الولايات المتحدة.

في الماضي طرح عدد من السياسيين اللبنانيين، أن قوة لبنان هي في ضعفه، لكن هذا المنطق لم يصمد أبداً أمام الواقع. فلبنان كان عرضة لاعتداءات إسرائيلية مستمرة، منذ عام 1948، العام الذي عرف بعام النكبة، الذي صاحب تأسيس إسرائيل. أمور كهذه لم تكن غائبة، عن الصحفيين الذين حضروا المؤتمر الذي عقده المندوب الأمريكي، باراك في بيروت، والذي لم يعد لديه ما يكفي من الصبر، للإجابة على أسئلتهم، فوصفهم بـ «الحيوانات»، في لغة غير معهودة من أي دبلوماسي، يلتزم بأساسيات الكياسة واللباقة، وليس له من معنى سوى طغيان غطرسة القوة وجبروتها. وكان من نتائج ذلك، سيادة حالة من الغضب لدى اللبنانيين، حجبت عنه إمكانية استكمال برنامج زياراته، ومغادرة البلاد، مؤكداً بهذا السلوك مقولة وَهْم القوة. فالمندوب، تصرف بعقلية «الكاو بوي»، وليس بعقلية مبعوث لدولة عظمى، لا تزال تفرض نسبياً سطوتها على القرارات الأممية.

الخبر الثاني، من غزة ويأتي في الوقت الذي يعلن فيه رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، عزمه على احتلال غزة، بعد حرب إبادة مريرة مارسها جيش الاحتلال، منذ السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2023، وذهب ضحيتها أكثر من 63 ألف قتيل وأكثر من 225 ألف جريح، جلّهم من الأطفال والنساء والشيوخ، وتسببت في عزلة دولية لإسرائيل، لم تشهدها منذ تأسيسها. فقد شهد اليوم التاسع والعشرين من شهر أغسطس/ آب، الماضي، أعظم مواجهة بين حماس وجيش الاحتلال، عندما نصبت للجيش الإسرائيلي، عدداً من الكمائن، اعترفت أجهزة الإعلام الإسرائيلية، أنها كانت الأقوى والأعنف، منذ أحداث السابع من أكتوبر. إن ذلك يلقي أسئلة كثيرة، حول إمكانيات الجيش الإسرائيلي في تنفذ مشروع الاحتلال، الذي وعد به نتنياهو. ويطرح سؤالاً أكثر وجاهة، حول أوهام القوة، التي تحكم عقلية رئيس الحكومة الإسرائيلية. كيف سيحقق أحلامه أو أوهامه، لا فرق في احتلال سوريا ولبنان والعراق وجزء من مصر، وهو لم يتمكن، خلال ما يقرب السنتين من إحكام قبضته على شريط صغير من أرض فلسطين، هو قطاع غزة.

الحدث الآخر، الذي فاجأ العالم بأسره، هو الموقف الأمريكي، من زيارة رئيس السلطة الفلسطينية، أبو مازن لنيويورك، وإلقاء كلمة من على منبر الأمم المتحدة، يشرح فيه تطورات القضية الفلسطينية. لقد منعت وزارة الخارجية الأمريكية، حصوله على تأشيرة دخول للولايات المتحدة الأمريكية. وهو أمر غير مألوف، إذ المفترض أن يكون موقع هيئة الأمم المتحدة، أرضاً حيادية، لا سلطة للولايات المتحدة عليها. هكذا نصت بروتوكولات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهكذا كان الواقع فيما مضى. فبعد أزمة الصواريخ الكوبية، عام 1962، والتي كادت أن تتسبب في نشوب حرب عالمية ثالثة، زار الرئيس الكوبي، فيدل كاسترو نيويورك، وألقى خطاباً تاريخياً من على منبر الأمم المتحدة، هاجم فيه بعنف السياسة الأمريكية، ووصفها بالعدوانية. ولم يتسبب ذلك مطلقاً في منع الولايات المتحدة لاستمرار حضور المندوب الكوبي، بالأمم المتحدة جلساتها المعتادة. فما الذي استجد في الأمر.

ولدينا مثل آخر، حصل عام 1974، عندما مُنع ياسرعرفات، من إلقاء كلمة له من على منبر الأمم المتحدة في نيويورك، قرر الأمين العام للأمم المتحدة نقل الجلسات إلى جنيف، لتمكين عرفات من إلقاء كلمة من على منبرها. وفي حينه لم تحظَ منظمة التحرير الفلسطينية، باعتراف دولي. وألقى خطابه الشهير، قائلاً «لقد جئتكم حاملاً البندقية في يد، وغصن الزيتون باليد الأخرى، فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي». وكرر عبارة لا تسقطوا غصن الزيتون من يدي ثلاث مرات. ورغم كل الحروب، والتصفيات والاغتيالات، بقيت منظمة التحرير صامدة حتى يومنا هذا.

سياسة الاغتيالات، سواء في غزة أو في أقطار عربية كلبنان وسوريا واليمن، والعراق، وإن ساندتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، لن تغير من الواقع شيئاً، ولن تكون سوى تأكيد آخر، على خطل أوهام القوة والنصر.