رسوم الأراضي البيضاء: تصحيح يترقبه المواطن وتستحقه القطيف
تشهد المملكة اليوم مرحلة متقدمة من الإصلاحات الاقتصادية والتنموية التي تعيد صياغة العلاقة بين المواطن والسوق، ومن أبرز هذه التحولات، القرارات المتعلقة بتطبيق رسوم الأراضي البيضاء، والتي أُعلن عنها مؤخرًا من قبل وزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان، وفق خريطة تفصيلية تغطي النطاقات الجغرافية في مدينة الرياض.
هذه الخطوة، وإن بدأت في العاصمة، إلا أن مدلولها يتجاوز الحدود الإدارية ليصل إلى كل مدينة وحي يعاني من نفس الخلل الجذري: ارتفاع أسعار الأراضي بسبب الاحتكار، وتعطيل مساحات واسعة من الأراضي البيضاء دون تطوير فعلي يخدم المجتمع.
الرسوم التي تتراوح نسبها من 10% في مناطق الأولوية القصوى إلى 2.5% في المناطق الأقل أولوية، لا تمثل عبئًا على المالك، بل تحفز التنمية وتفتح السوق أمام فرص جديدة من التطوير والمنافسة العادلة. إنها ليست ضريبة عقابية بقدر ما هي وسيلة لتحريك الأصول المجمدة، وإدخالها في الدورة الاقتصادية الحقيقية التي يستفيد منها الجميع: الدولة، والمواطن، والمستثمر، والمجتمع.
وبينما تتركز الأنظار اليوم على الرياض كنموذج أولي لهذا التطبيق، إلا أن من الإنصاف والإلحاح أن نوجه الاهتمام إلى مدن أخرى تحتاج - بل تستحق - ذات الإجراءات التصحيحية، وفي مقدمتها محافظة القطيف وما حولها. من خلال متابعتي الشخصية الدقيقة لحركة السوق العقاري في هذه المنطقة خلال السنوات الأخيرة، بات واضحًا أن الأسعار هناك وصلت إلى مستويات غير مبررة، خلقت فجوة بين العرض والطلب، وجعلت امتلاك الأرض حلمًا مؤجلًا أو مستحيلًا لشريحة واسعة من المواطنين.
القطيف، كمنطقة سكنية نابضة بالحياة، ذات كثافة سكانية متزايدة وتاريخ حضاري غني، تعاني اليوم من اختلالات سعرية متراكمة، سببها الأول تجميد الأراضي واحتكارها دون استثمار أو تطوير، وسط غياب أدوات ضغط حقيقية لإعادة هذه الأراضي إلى السوق أو تحويلها إلى مشاريع تنموية. الواقع هناك يكشف عن مشكلة لا تقل أهمية أو إلحاحًا عن تلك الموجودة في المدن الكبرى، بل ربما تتطلب تدخلاً أكثر سرعة وحزمًا، نظرًا إلى التفاوت الكبير بين دخل المواطن ومتطلبات السوق العقاري.
ما يحدث في القطيف لا يمكن اعتباره استثناءً، بل هو نموذج متكرر في العديد من مدن المملكة التي تعاني من نفس المعوقات. لكن المبالغة في الأسعار داخل المنطقة الشرقية تحديدًا، وخصوصًا في القطيف، جعلت من الأرض عبئًا بدلًا من أن تكون وسيلة استقرار. وهذا يفرض على الجهات المختصة أن تشمل هذه المنطقة في مراحل التوسعة القادمة من تطبيق رسوم الأراضي البيضاء، لتحقيق توازن سعري حقيقي، يُعيد الاعتبار إلى القدرة الشرائية للمواطن، ويمنحه حقه في التملك ضمن بيئة سعرية عادلة ومنطقية.
من الإيجابي أن وزارة الشؤون البلدية والإسكان أكدت أن جميع إيرادات الرسوم ستُخصص بالكامل لدعم مشاريع الإسكان، مما يعزز من أثر القرار الإيجابي، ويمنحه بعدًا اجتماعيًا وإنسانيًا يتجاوز مجرد كونه تنظيمًا ماليًا. المواطن هنا لا يدفع فقط، بل يُعاد توجيه ما يُحصَّل نحو مشاريعه، وسكنه، واستقراره، وهذا ما يجعل الرسوم عامل توازن لا تهديدًا.
السوق العقاري في المملكة يحتاج اليوم إلى هذا النوع من الإصلاح، ليس فقط لتحفيز التطوير، بل لحماية الاقتصاد من الجمود وتحويل الأصول المجمدة إلى مشاريع حقيقية تعزز الناتج المحلي وتخفض من تكاليف الحياة. إن غياب التطوير الفعلي، وتحول الأراضي إلى مخازن للقيمة، خلق فقاعات عقارية غير صحية. والرسوم، كما نراها اليوم، ستكون بمثابة أداة لتفكيك هذه الفقاعات تدريجيًا، عبر تحريك المعروض، وتشجيع البيع بأسعار واقعية، وفتح الطريق أمام الشباب لامتلاك السكن دون أن تكون الأرض عبئًا أو مصدر قلق دائم.
ولأن السوق مترابط ومتشابك في جميع مناطق المملكة، فإن نجاح تجربة الرياض سيشكل سابقة تنظيمية يمكن تكرارها، شريطة أن يتم تخصيص خريطة محدثة للمدن ذات الأولوية العالية، وفي طليعتها القطيف، التي تحمل من المقومات والمظلومية ما يجعلها من أولى المناطق التي يجب أن تُدرج في المرحلة القادمة من التوسع في تطبيق الرسوم.
ختامًا، إن ما نشهده اليوم من قرارات تصحيحية يعكس التزامًا حقيقيًا من الدولة نحو تحقيق العدالة العمرانية والاجتماعية. رسوم الأراضي البيضاء ليست مجرد سياسة اقتصادية، بل هي بوابة نحو استقرار سكني طال انتظاره، وإعادة لتوزيع الفرص التنموية بما يتسق مع رؤية المملكة 2030 في رفع جودة الحياة، وتمكين المواطن من تملك المسكن المناسب.
إن القطيف، كغيرها من المناطق التي تعطلت بفعل احتكار الأراضي، تستحق أن تكون ضمن هذا المسار، لتتحول من عبء عقاري إلى قصة نجاح عمراني، يستفيد منها المواطن، وتزدهر بها المدن، ويستقر بها الوطن.