آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:17 ص

حين يصبح الأدب علاجاً جماعياً

أمير بوخمسين

منذ أن تعلم الإنسان الكتابة، لم تكن الكلمات مجرد وسيلة لتبادل الأخبار، بل كانت صرخة وجودية، محاولة لإخراج ما لا يُحتمل إلى فضاء المشاركة.

الألم في طبيعته فردي، معزول، يحبس الإنسان في سجنه الخاص. لكن حين يسكب في الأدب، يتحول إلى جسر نحو الآخرين، وإلى معنى مشترك تتقاطع عنده التجارب الإنسانية. هنا تكتسب المعاناة قيمة، وتتحول من جرح صامت إلى لغة خلاص.

حين كتب طه حسين سيرته في الأيام، لم يكن يروي فقط حكاية طفل كفيف تحدى الجهل والفقر، بل كان يعيد صياغة الألم نفسه كقوة دافعة نحو الوعي. لقد علمنا أن الحرمان ليس نهاية، بل بداية بصيرة.

العديد من الدواوين والروايات التي كتبت من رحم المعاناة، تعكس تجارب شخصية أو أحداثًا تاريخية مؤلمة. فديوان ”أحبك أيها الحزن“ للشاعر نزار قباني يعبر عن الألم والفراق. وديوان ”يوميات جرح فلسطيني“ للشاعر محمود درويش يتناول معاناة الشعب الفلسطيني.

وعندما كتبت مي زيادة رسائلها في لحظة انهيار نفسي بعد أن فقدت أعز أصدقائها، لم تكن تمارس رثاءً شخصيًا فقط، بل كانت تمنح الوحدة معنى إنسانيًا شفافًا، وتؤكد أن الألم يمكن أن يُحكى لا ليُبكي، بل لينقذ الآخرين من غرق مماثل.

والطيب صالح في روايته ”موسم الهجرة إلى الشمال“ تناول الصراع الثقافي والمعاناة في ظل الاستعمار. وأحلام مستغانمي تحدثت عن الحب والفقد في روايتها ”ذاكرة الجسد“ «ومن أعمالها أيضًا ”الأسود يليق بك“».

وفي الجانب الغربي، يظل دوستويفسكي مثالًا صارخًا: أدبه كله وُلد من رحم المعاناة؛ السجون، الفقر، المرض، وصراع الإيمان والشك. لكن ما خرج من قلبه لم يكن مجرد وجع شخصي، بل تحول إلى فلسفة كونية.

جوزيه ساراماغو في روايته ”العمى“ تحدث عن تفشي وباء العمى وكيف يؤثر على الإنسانية. أما جورج أورويل فصوّر مجتمعًا من المعاناة تحت نظام قمعي في روايته ”1984“.

جميع هذه الأعمال وغيرها تستند إلى تجارب إنسانية عميقة وتعكس القضايا الاجتماعية والنفسية.

الأدب لا يغير الواقع المادي مباشرة، لكنه يغير وعينا به. الإنسان الموجوع الذي يجد نفسه في بيت شعر لمحمود درويش، يشعر أن ألمه لم يعد عبثًا، بل صار جزءًا من قصة كبرى. وهذا الإدراك وحده كاف لانتشال الروح من هاوية الانكسار.

فالقارئ حين يلتقي نصًّا يعبر عن جراحه، يكتشف أنه لم يعد وحيدًا في معركته مع العتمة. ومن هنا، يصير الأدب علاجًا جماعيًا، يخفف العزلة، ويحول التجربة الشخصية إلى تجربة كونية يتقاسمها البشر.

المجتمعات التي تقرأ آلامها في نصوصها لا تخشى المواجهة. فاليابان مثلًا، بعد الحرب العالمية الثانية، وجدت في أدبها وسيلة لفهم جراح الهزيمة، وأنتجت نصوصًا غيرت وعيها بالذات والآخر. وفي المقابل، المجتمعات التي تهرب من مواجهة ألمها تظل أسيرة صمتها، ويغدو الجرح أكثر عمقًا.

الأدب لا يداوي الألم بالمسكنات، بل يعالجه بالاعتراف، بالتسمية، بتحويله إلى لغة. فهو يقول لنا: لستم وحدكم، إن معاناتكم جزء من الوجود الإنساني.

الألم سيبقى جزءًا من معادلة الإنسان، لكن الأدب هو الذي يمنحه معنى، ويحوله من لعنة إلى طاقة وعي، ومن وجع شخصي إلى إرث إنساني خالد.