آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:17 ص

وسراجا منيرا «4»

مشهد يستحق التوقف عنده والتأمل في تحوله والعوامل المؤثرة في انبلاج الحقيقة منه بعد ذلك الظلام، فالأمة التي عاشت إطباق الجهالة والضلال في مختلف أوجه الحياة والعلاقات والأفكار والقيم، هي على موعد مع السراج المنير ﷺ وحركته فيهم إلى نور التوحيد والهدى والعدالة الاجتماعية وميزان الأخلاق الحميدة، فذلك الفكر الأهوج والمتحكمة فيه الأهواء ومشاعر الكراهية والخطى الخطيرة المتهورة، قد انهارت جداريته وتغير مجرى التاريخ وحياة الناس إلى الوعي والرشد والاتزان الأخلاقي والاجتماعي، فما كان يدور في مجالسهم من أحاديث فارغة واستمتاع بالأساطير تغيّر مجرى الأمر نحو الكلمة الواعية والتصورات المفيدة وتحمّل المسئولية في البحث عن حلول ومعالجات لما يهمهم من مشاكل وخلافات، وكذلك الأمر الإيجابي انعكس على علاقاتهم الاجتماعية التي تعصف بها الخلافات والخصومات لأبسط الأسباب، فأصبحوا مجتمعا تقوم عُرى العلاقات بين الأفراد فيه على الاحترام والتعاون والثقة والتعايش واختفاء الفوارق الطبقية والعنصرية.

نعم لقد جاء الهدي المحمدي لينتشل الناس من دياجير الجهل والضلال وينقلهم إلى ضفاف الحقيقة والمعرفة، وهذا ما يجعل البعثة النبوية - على قصر مدتها - تمثل منعطفا تاريخيا منقطع النظير، بما أحدثه الرسول الأكرم ﷺ من تغيير جذري على المستوى الفكري والسلوكي، نعم فهذا القرآن الكريم - مصدر المعرفة والتنوير - يدعو في آياته إلى النظر والتأمل العقلي على مستوى العقيدة ونبذ عبادة الأصنام من دون الواحد القهّار، وكذلك الوعي بالآثار والعواقب من خلال سرد قصص الأمم السابقة وموقف العناد والعدوان الذي اتخذوه تجاه أنبيائهم ، وما كانوا يمارسونه من رذائل أخلاقية تأباه الفطرة السليمة والعقل المدرك، ولتمجيد العقل الواعي والدعوة إلى تكوين المخزون والزاد المعرفي دعاهم الرسول الأكرم ﷺ لاغتنام الأوقات بطلب العلم وتدارس الآيات القرآنية وما تتضمنه من قيم تربوية وعقائدية واجتماعية تعلي المكانة الفردية والاجتماعية.

والتغيير الإيجابي على المستوى الفكري انعكس وعيا في كل جوانب حياتهم ومساحة الاهتمامات عندهم، فقد كانت أكثر أوقاتهم تشغلها المناكفات والمعارضات الشعرية والتفاخر بالأنساب وتمجيد العنصرية للدم أو القبيلة، وتسود بينهم فكرة الغلبة للقوي وثقافة الغاب وإهمال شأن الضعيف وعدم المبالاة بحقوقه، فجاء الهدي النبوي ليعيد تشكيل منظومتهم وهويتهم الثقافية بما تحمله من مبادئ العدالة واحترام الحقوق وإعلاء قيمة التراحم والعطاء والتعاون بينهم.

واللقب الذي أطلقته قريش على الرسول الأكرم ﷺ «الصادق الأمين» لم يكن مجرد تسمية، بل هي سمة وهوية ومنهج وثقافة للمجتمع الذي أنشأه وتتربّى عليه الأجيال، بما يعكس قيما حضارية وإنسانية تنعكس بتأثير قوي على التصرفات.