آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:17 ص

الاستدامة في التعليم الخاص

ياسين آل خليل

تتزاحم المؤسسات التعليمية الخاصة لتخرج أفضل ما لديها وتجذب أكبر عدد من الطلاب وتحقق بذلك أهدافها التربوية والتنموية التي تتطلع لتحقيقها. وقد نجد نموذجًا لمدرسة خاصة تستمر لعقود فتحقق الكثير من الأهداف التربوية، لكنها تتعثر في تحقيق رافد مهم تتكئ عليه بقية التطلعات الأخرى. هذا دون شك مؤشر على خلل عميق، يؤطّر ويمهد لطرح أسئلة عميقة. إن تغطية النفقات فقط دون فائض يجعل المشروع عرضة للاستنزاف البطيء، ويحوّل الاستمرار إلى مجرد تأجيل لأزمات مستقبلية قادمة.

يعتقد البعض أن امتلاك المديرين التنفيذيين لمؤهلات أكاديمية عليا يجعلهم الأشخاص الأقدر لإدارة هكذا مشاريع، بينما الواقع يثبت يوما بعد آخر أن الإدارة تحتاج إلى أكثر من ذلك. الإدارة التربوية الناجحة تتطلب مهارات مالية وقيادية، علاوة على القدرة على اتخاذ قرارات استراتيجية. عندما يُدار الصرح التعليمي بعقلية أكاديمية تقليدية، فإنه من المؤكد أن يضيع التوازن بين جودة التعليم ومتطلبات الربحية.

المال هو الشريان الحيوي لأي مؤسسة تعليمية؛ فهو الذي يحدد قدرتها على جذب الكفاءات وتجديد بيئتها التعليمية. أما أعداد الطلاب فهي مرآة ثقة السوق، وأي تراجع فيها يُعدّ إشارة مبكرة إلى خسائر محتملة على المدى البعيد. وفي المقابل، تمثل الدعاية الذكية جسر العبور إلى الجمهور، لكنها لا تُختزل في الشعارات والحسومات، بل تُبنى على سمعة راسخة تُغذّيها قصص نجاح حقيقية، وحضور رقمي فعّال، وتواصل مجتمعي مؤثر. وعند اختلال أحد أضلاع هذا المثلث، تجد المؤسسة نفسها عالقة في دائرة مغلقة تعيق تطورها واستدامتها.

المدرسة ليست جزيرة معزولة. البيئة المجتمعية التي تدعم التعليم، وتقدّر قيمته، ترفع المؤسسة وتمنحها أسباب النمو. أما إذا تعامل المجتمع معها كخيار ثانوي، فإنها تظل تكافح وحدها. هنا يظهر دور المدرسة في خلق شراكات تفاعل مع المجتمع، لتكون جزءًا من منظومته، لا مجرد مُقدّم خدمات تعليمية.

عندما تظل المؤسسة التعليمية لسنوات طويلة في حدود التوازن التشغيلي دون أن تحقق أرباحًا، فتلك ليست علامة استقرار بل جرس إنذار مبكر. وحين يتراجع الإقبال على التسجيل عامًا بعد عام، فهذا دليل واضح على اهتزاز ثقة المجتمع بهذه المؤسسة. أما ضعف ولاء أولياء الأمور وتوجههم إلى مدارس أهلية أخرى، أمر آخر يزيد من الطين بلة، هذا إذا ما أضيف له عامل التضخم في النفقات، مقابل دخل محدود بالكاد يغطي الاحتياجات. إن استمرار هذه المظاهر دون معالجة جذرية يجعل أي محاولة لاحقة للإنقاذ أكثر كلفة وأقل فاعلية.

إنقاذ هكذا مؤسسة أمرٌ قابل للتنفيذ، إذا ما تبنّت الإدارة خطة شاملة تعالج فيها مكامن الخلل بجرأة. يبدأ الطريق بإعادة هيكلة مالية تضبط النفقات وتوجّه الموارد إلى ما هو أكثر أولوية، مع التفكير في رفع الرسوم الدراسية بطريقة مدروسة توازي جودة التعليم المقدّم. في الوقت ذاته، لا بد من صقل مهارات المعلمين لرفع القيمة الأكاديمية الحقيقية، مع اعتماد أدوات مالية حديثة لمراقبة الأداء وضمان الشفافية في اتخاذ القرار. كما أن تنويع مصادر الدخل عبر إدخال برامج تدريبية رقمية، وإنشاء مراكز تعليمية مساندة، يمكن أن يحوّل المدرسة من مؤسسة متعثرة، بالكاد تغطي نفقاتها، إلى مشروع تعليمي مستدام قادر على المنافسة والنمو.

إذا لم يكن لدى القائم على هذه المؤسسة الاستعداد لضخ استثمارات جديدة أو مواجهة التغيير المؤلم، فإن البيع يظل خيارًا عقلانيًا يحفظ ما تبقى من القيمة السوقية للمؤسسة، ويتيح للمستثمر توظيف أمواله في مشاريع أكثر ربحية، وقد يكون هذا الخيار هو الأذكى والأكثر فاعلية. المماطلة في اتخاذ قرارات صعبة هي أخطر من الخسارة نفسها، إذ تقود إلى تراجع تدريجي في السمعة والقيمة حتى تفقد المدرسة جاذبيتها بالكامل.

مع ذلك، لا يقتصر الأمر على خيار الإصلاح الداخلي أو البيع فقط، هناك سيناريو ثالث قد يشكل نقطة تحول حقيقية، وهو استحواذ مؤسسة تعليمية كبرى ناجحة تمتلك هامش من الخبرات الإدارية والمالية المتقدمة، تستطيع ضخ دماء جديدة تحمل أفكارًا ديناميكية قادرة على التغيير والوصول إلى الربحية في غضون وقت قصير. التوجه في اتخاذ هكذا قرار استراتيجي، لا ينقذ المدرسة فحسب، بل يحولها إلى مشروع منافس قوي، يستعيد ثقة المجتمع، ويقنع أولياء الأمور بإعادة تسجيل أبنائهم فيها. اتخاذ القرار الأمثل في الوقت الراهن يمكن أن يغير مجرى هذه المؤسسة ويحولها إلى مصاف المدارس الرائدة.