هنا لا مكان للخصام
في أروقة المرض، يصبح التعايش والتآلف بين المرضى دواءً يخفف ثقل الألم، فابتسامة صديق أو كلمة مواساة قد تكون أحيانًا أبلغ من أي علاج.
في وحدة الغسيل الكلوي جلس أبو محمد يحاول أن يُطفئ نار الخصام المشتعلة بين صديقيه، أبو علي وأبو مشاري.
اقترب بصوتٍ حانٍ:
— إلى متى ستظل مقاطعًا لأبي مشاري؟
جاءه الرد كحجرٍ أُسقط في بئر عميقة، باردًا، قاسيًا:
— إلى قيام يوم الدين!
بدأت الحكاية يوم أنزلق لسان أبي مشاري بمزحةٍ خفيفة، لكنها وخزت قلب أبي علي. فانتفض غاضبًا، صوته يعلو:
— احترم نفسك، فأنا لست كما تظن!
اعتذر أبو مشاري بصوتٍ خافتٍ كسحابةٍ انكسرت في السماء، ثم أسلم نفسه للصمت، مستلقيًا حتى نهاية جلسة الغسيل. وحين خرج، وزّع ابتسامته ووداعه على الجميع… إلا أن أبو علي ظل جامد الملامح، يختبئ خلف شاشة هاتفه.
مرّت الأيام ثقيلة كأنها تمتحن الصبر، حتى غاب أبو مشاري عن جلسة غسيله. التفت أبو محمد إلى الممرضة، يسأل بصوتٍ يقطعه القلق:
— هل اتصل واعتذر؟
أجابت بهزة رأسٍ: لا.
مد يده إلى الهاتف، اتصل مرارًا… لكن الهاتف كان مغلقًا، كأن الأبواب كلها أُغلقت في وجه قلبه.
دخل أبو علي، فبادره أبو محمد بصوتٍ مرتجف:
— أبو مشاري لم يحضر اليوم…
أجابه ببرودٍ يزيد الجرح اتساعًا:
— وما شأني أنا؟
صرخ أبو محمد وقد تكسرت الكلمات بين دموعه:
— ما أقسى قلبك!
ابتسم أبو علي بمرارةٍ أشد من العتاب:
— هل هو ابني أو أخي لأقلق عليه؟
غصّ أبو محمد بالصمت، لكنه ظل يحمل في داخله غصّةً تجرح القلب.
عاد إلى بيته، يسحب قلقه كسلسلةٍ لا تنفك. وفي المساء قادته قدماه إلى بيت صديقه. طرق الباب طويلًا، لكن البيت بقي صامتًا، كأن الجدران تأبى أن تُجيبه. أخرج هاتفه من جديد… اتصل… لكن الهاتف لا يزال مغلقًا. شعر أن قلبه هو الذي أُغلق، وأن الليل أثقل صدره بوحشته.
عاد يهمس في الطريق:
— أين أنت يا أبا مشاري؟ ما أقسى أن يغيب عنك من تحب ولا تعلم عنه شيئًا…
في اليوم التالي، جلس أبو محمد في الوحدة، والهاجس ينهشه. التفت إلى أبي علي قائلاً:
— ألِن قلبك يا رجل! نحن مرضى، وأي زلة قد تودي بنا. صديقنا غائب منذ يومين وأنت لا تبالي!
ارتجف صوت أبي علي، وإذا بدمعةٍ متمرّدة تسقط من عينه، قال بصوتٍ مبحوح:
— لا تظنني حجرًا… أنا مثلكم، لكنني أضعف مما تظن.
ساد الصمت، كأن الوحدة كلها حبست أنفاسها.
وبينما كان المرضى منشغلين، هذا يحدق في شاشة هاتفه، وذاك يتناول فطوره، وآخر يهمس إلى جاره، إذا بخطوات مألوفة تقطع الأجواء، وصوتٍ حنون يملأ المكان:
— السلام عليكم.
التفتت الرؤوس جميعًا، وإذا هو… أبو مشاري!
انتفض أبو محمد، دموعه تسبق كلماته:
— أين كنت يا عزيز القلب؟
بينما ذابت صلابة أبي علي، وانفجرت كلماته متقطعة:
— الحمد لله على السلامة…
نظر أبو مشاري إليهما، متعجبًا:
— ماذا حدث؟ لماذا هذه الدموع؟ ها أنا بينكم.
اقترب منه أبو محمد يسأله بلهفة:
— أين كنت؟ لماذا لم تحضر جلسة الغسيل؟ ولماذا هاتفك مغلق؟
ابتسم أبو مشاري وقال ببساطة:
— كانت لدي مواعيد في البلدية، وفقدت هاتفي حين خرجت من المستشفى… ربما نسيته في سيارة الأجرة. وها أنا ذا بينكم.
عندها قال أبو علي بصوتٍ متحشرج:
— قلقنا عليك كثيرًا.
اقترب أبو مشاري منه، مدّ يده مبتسمًا. لم يكن للكلمات حاجة، فقد تكفّلت الدموع بأن تقول كل شيء. كان اللقاء كغيثٍ نزل على أرضٍ عطشى، أعاد للمكان دفء الأخوّة، وأثبت أن القلوب مهما جمدت، فإن دمعةً واحدة تكفي لتعيدها للحياة.