وشوشات بين الأرصفة
على الأرصفة التي شهدت مرور آلاف الخطوات، تتسلل وشوشات لا يسمعها سوى قلبٍ مُتعب وعينٍ متعبة. وشوشات أطفالٍ يتركون دفاترهم خلف أبواب مغلقة ليحملوا بدلها أثقال الحياة. وشوشات أمهاتٍ يخفين دموعهن خلف ابتسامة صامتة، يحاولن أن يزرعن الطمأنينة في بيتٍ ينقصه العدل قبل أن ينقصه المال. وهناك، على حواف الطرقات، تقف الحقيقة عاريةً: أب يملك المال لكنه يبخل به، ليترك أسرته تتكسر أحلامها بين حجارة الأرصفة.
ليس الفقر دائماً قدراً، وأحياناً لا تكون الحاجةُ سوى نتاج بخلٍ متعمد. حين يقسو الأب على أبنائه بالحرمان، وهو قادر على منحهم حياة كريمة، يتحول البيت إلى سجن صامت، ويصير الرصيف نافذةً يطل منها الأطفال على عالمٍ لم يعرفوه إلا عبر العوز.
كم من طفلٍ كان من الممكن أن يكون طبيباً، لكن الجوع أرسله بائعاً متجولاً؟
وكم من فتاةٍ كان يمكن أن تكون معلمة أو قائدة، لكن بخل أبيها أجبرها أن تُطفئ حلمها في صمت؟
إنها ليست مجرد حكايات، بل جراح يومية تُكتب على الأرصفة بدموع الأبناء.
الأب البخيل لا يحرم أبناءه فقط من الطعام واللباس، بل يسرق منهم الحق في الأمان، والحق في التعليم، والحق في الكرامة. وهنا يتسلل الانحراف؛ فالطفل الذي يُجبر على ترك مقعده الدراسي قد يطرق أبواب العمل المبكر، أو ينزلق إلى السرقة، أو يمد يده في التسول، لا لأنه لا يملك أباً، بل لأن أباه اختار أن يكون غريباً قاسياً.
إن المال حين يُحبس خلف جدران البخل، لا يثمر بركةً ولا يورث احتراماً. وما قيمة ثروةٍ يُجمعها الأب إن كان صدى خطوات أولاده يتوزع بين الأرصفة في بحثٍ مذل عن كسرة خبز؟
إن وصمة الحرمان التي يزرعها الأب البخيل في قلوب أبنائه تبقى جرحاً غائراً، حتى لو تكدست الأموال في يديه. فالأبوة ليست إنفاقاً مادياً فحسب، لكنها عطاء، واحتضان، وشعور بأن البيت حصنٌ آمن لا رصيف بارد.
ختامًا
عندما نصغي جيداً للأرصفة، سنسمع حكايات لم تُكتب في الكتب: أصوات أطفال يضحكون قسراً ليخفوا ألم الجوع، وأمهات يحاولن أن يكنّ أجنحةً مكسورة تحمي صغارهن من الريح.
وشوشات الأرصفة ليست مجرد صدى خطوات؛ إنها صرخات صامتة تقول للأب البخيل: إن المال الذي تمنعه لن يحميك من دعوة مظلوم، ولن يشتري لك مكانةً في قلوب من كسرتهم بيدك.
ولعل أجمل إرثٍ يتركه الأب لأبنائه ليس العقارات ولا الحسابات البنكية، بل قلباً مطمئناً، وروحاً مشبعة بالكرامة، وحلماً يكبر بين دفاتر الدراسة لا بين وجوه المارة على الأرصفة.
فالمال ينفد، أما أثر الكرم في الأرواح فيبقى، يضيء الطرقات ويمحو وشوشات الأرصفة.