مرايا مشوّهة
ليس أشد قسوة من أن تمد قلبك مرآة صافية، فيعيدها الآخرون إليك مشوّهة…
كنتُ أظنّ أن العالم مرآة نقية، وأن قوانين الوجود لا تخون: إذا زرعت خيرًا حصدت خيرًا، وإذا منحت لطفًا عاد إليك مضاعفًا كما يعود الصدى إلى من نادَى في وادٍ مفتوح. غير أنّ التجربة أثبتت أن المرايا قد تكون مشوّهة، وأن الأصوات قد تضيع في متاهات الفراغ.
البشر لا يرونك كما أنت، بل كما تسمح لهم جروحهم وظلالهم أن يروك. كل إنسان يحمل خزائن من الخيبات والآلام والتأويلات، فيُسقط صورتك عليها ويظن أنه أدرك حقيقتك. وما نظنه تواصلاً ليس سوى تقاطع هشّ بين عالَمين متوازيين.
الفيلسوف كانط قال: لا ندرك ”الشيء في ذاته“، بل ما يظهر لنا عبر أدواتنا وعقولنا المحدودة. كذلك نحن مع بعضنا: لا نرى الآخر، بل انعكاسه في مرايانا الداخلية. إنها مأساة الوجود الإنساني: عزلة متبادلة حتى ونحن نظنّ أننا نقترب.
ومع ذلك، وسط هذا السجن، تبقى الأفعال أصدق من الأقوال. الكلمات قد تختبئ خلف الأقنعة، لكن الأفعال لا تعرف التمويه؛ إنها تكشفنا دومًا بما نحن عليه.
نحن نعيش هذا الالتباس يوميًا: حين تُساء قراءة كلمة عابرة، أو يتحوّل لطف صادق إلى ظنّ سيئ، أو حين تغيّر ابتسامة صغيرة مجرى يوم كامل. فالناس لا يستجيبون للمنطق وحده، بل لتضاريس أرواحهم وخرائط آلامهم التي لا نراها.
هنا يصبح حسن النيّة أكثر من فضيلة أخلاقية؛ إنه مقاومة وجودية. أن تختار أن تظل طيبًا، ولو بدا العالم عبثيًا. أن تحافظ على نقاء قلبك دون أن تنسى حكمة العقل. أن تبقى نبعًا، حتى لو مرّ عليك العابرون وألقوا فيه الحجارة.
الصدمة لا تنهي الطيبة، بل تعمّدها. تجعلها واعية، تحرّرها من السذاجة، وتحوّلها إلى قوة: لطف يعرف حدوده، وكرم يضع مصدّات للرياح.
النضج ليس أن تفقد إيمانك، بل أن ترى قبح العالم دون أن تعمى عن جماله. أن تعرف الشرّ دون أن تستسلم له. أن تدرك هشاشتنا جميعًا، وتظل تختار الحبّ رغم ذلك.
قد لا يفهمك الآخرون كما تستحق، وقد لا تفهمهم كما هم، لكن المحاولة نفسها فعل إنساني عظيم. نحن جميعًا نحمل مرايا مشوّهة، ومع ذلك نبحث من خلالها عن ومضة حقيقة، عن خيط من معنى.
وتلك هي التراجيديا والكوميديا معًا: أننا محكومون بعدم الفهم الكامل، ومع ذلك نصرّ على أن نحبّ ونمنح ونحاول. وربما هنا — في هذا الإصرار ضدّ العبث — تولد أعمق أشكال الكرامة الإنسانية، كما يزهر غصن صغير في شقّ صخرة صمّاء.