آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:17 ص

العم عثمان: صورة لا تغيب.. وسيرة لا تُنسى

فؤاد الجشي

رحيل العم عثمان «أبو علي» لم يكن حدثًا عابرًا، بل كان صفحةً مؤثرة في سجلّ المجتمع، صفحة امتلأت بالقيم والمواقف والأثر الطيب.

لم يكن مجرّد رجل بلغ من العمر ما بعد الثمانين عامًا، بل كان مدرسة أخلاقية وسلوكية متكاملة، تعلّم منها الناس معنى البساطة والصفاء، وكيف يكون العمر الطويل طريقًا للخير لا ساحة للتعب أو الأنانية.

منذ صغره، عُرف العم عثمان بموهبة فريدة في التصوير.

كان يلتقط بعدسته ما لا تدركه أعين الآخرين، وكأنّ لديه عينًا ثالثة ترى ما وراء الملامح والوجوه.

صوره لم تكن حبسًا للوقت فحسب، بل كانت حياةً تُنقل من لحظة إلى أخرى.

كان يعرف كيف يُخلِّد لحظة عابرة في صورةٍ تبقى للأبد، وكيف يُبرز الجمال الكامن في تفاصيل بسيطة لا يلتفت إليها كثيرون.

ومن خلال هذه الموهبة، أصبح شاهدًا على ذاكرة المجتمع، يحفظها في أوراق وصور، لتظلّ شاهدةً على الناس وأيامهم.

إلى جانب موهبته في التصوير، كان العم عثمان ابن مهنة أصيلة، فقد امتهن النجارة منذ شبابه، وجعل من عرق جبينه وسيلة عيشٍ كريمة.

النجارة علّمته الصبر والإتقان والدقة، وصقلت في شخصيته حبّ العمل والإخلاص له.

لم يكن ينجز عملًا إلّا بروح الفنان، ولا يُسلّم قطعة خشب إلا وقد أودع فيها شيئًا من قلبه.

وبقدر ما أكسبته النجارة رزقًا، فقد أكسبته احترام الناس وثقتهم، لأنّ يده لم تمتدّ إلّا للخير، وقلبه لم يعرف إلّا النزاهة والوفاء.

لكنّ العم عثمان لم يكن معروفًا بموهبته ولا بمهنته فقط، بل بشخصيته الاجتماعية الاستثنائية.

كان حاضرًا في المناسبات كلّها، الأفراح كما الأتراح، وكان يملك قلبًا يتسع للجميع.

من قصده وجد صدرًا رحبًا، ومن استشاره وجد نصحًا صادقًا، ومن جالسه وجد روحًا مرحة تفيض بالطمأنينة.

أخلاقه الرفيعة لم تكن مجرّد سلوك عابر، بل كانت جزءًا من جوهره الأصيل، كالمعدن الذي لا يصدأ مهما مرّ عليه الزمن.

حين وافاه الأجل، تجلّى حبّه في قلوب الناس، فشهد تشييعه حضورًا استثنائيًا.

اجتمع أبناء المدينة والقرية من كلّ صوب، كبارًا وصغارًا، أصدقاءً وأبناء مجتمع، ليودعوا الرجل الذي ترك في حياتهم بصمة لا تُنسى.

كان مشهد التشييع أكبر من جنازة، كان لوحةً إنسانية تعبّر عن وفاء المجتمع لمن أحسن إليه.

وفي مجالس العزاء، دوّت أصوات الدعاء والذكرى، وتناقل الناس سيرته العطرة وذكرياته، وكأنهم يرفضون أن يغيب حضوره حتى وهو في مثواه الأخير.

إنّ شخصية العم عثمان ليست شخصية عادية تُطوى بغياب الجسد، بل هي رمزٌ من رموز المجتمع، وذاكرة ستبقى تنبض في الأجيال.

فقد علّم بصدق أنّ العمر المديد يمكن أن يكون طريقًا للنقاء، وأنّ الصفاء الداخلي هو ما يجعل الإنسان محبوبًا بين الناس.

ترك أثرًا جميلاً لا يُمحى، وترك سيرةً تستحق أن تُروى، لا كمجرد قصة رجل عاش ورحل، بل كقيمة إنسانية متكاملة ينبغي أن تُحفظ ويُقتدى بها.

رحم الله العم أبا علي، وغفر له، وأسكنه فسيح جناته، وجعل من ذكراه منارةً مضيئة لأبنائه وأحفاده وأبناء مجتمعه.

لقد عاش صادقًا، ورحل كريمًا، وترك إرثًا من الأخلاق والصفاء سيبقى ممتدًا ما بقيت القلوب تذكره.

وإنا لله وإنا إليه راجعون.