جاذبية القبول
يقول الإمام علي بن أبي طالب :
«ميدانكم نفوسكم؛ فإن انتصرتم عليها، كنتم على غيرها أقدر، وإن خُذلتم فيها، كنتم على غيرها أعجز، فجرِّبوا معها الكفاح أوّلًا.»
هذه الكلمات تُلخّص حقيقة أساسية: ميدان النفس هو الأساس لكل علاقة صادقة ومتوازنة مع العالم. فمن لم يعرف نفسه ولم يُكافح في سبيل السيطرة عليها، لن يستطيع فهم الآخرين بصدق ورحمة.
السعي إلى معرفة النفس خطوة جريئة وشجاعة، لكنها رحلة مليئة بالمخاطر والمطبات. مواجهة أعماقك تعني مواجهة قوتك وضعفك، نورك وظلامك.
الطريق متعرّج ومليء بالصراعات والتردد. نتقدّم خطوة إلى الأمام، ثم نعود إلى الخلف، وندور في دوائر أحيانًا لا تنتهي. وأحيانًا تتأذّى الروح فتؤثّر على الجسد، فتظهر آثار الألم في شكل جروح وكسور. ومع ذلك، هو الطريق الوحيد نحو الشفاء والتحرّر من أسر النفس.
الذي يحاول معرفة الآخر دون أن يعرف نفسه يشبه من يمرّ على بئر. من بعيد يظن أنّه مليء بالماء، أو نصفه فقط، أو ربعه، وربما يابس أو ممتلئًا بالقاذورات. لكن حين يقترب، قد يجده مختلفًا تمامًا، أو مسدودًا. هكذا هي علاقتنا بالآخرين: غالبًا نرى فقط ما نتوقّعه أو نتوهّمه. وما تدركه حدود أفكارنا وتصوّراتنا الذهنية.
لذلك، يجب أن نبدأ بأنفسنا أوّلًا. فمن عرف ذاته بصدق، عرف حدوده وقوته وضعفه، وأصبح أصدق وأرحم وأكثر قدرة على فهم الآخرين. معرفة النفس هي المفتاح إلى كل علاقة صادقة وسليمة.
وأحيانًا، في طريق معرفتنا لأنفسنا، نلتقي بشخص يكون مرآة ورسالة في الوقت نفسه. يُظهر لنا عيوبنا ومزايا نا، وقد يُؤلمنا ليُخرج أفضل ما فينا. يشبه ذلك النار التي تُصهر الخام، أو الضغط الذي يحوّل الفحم والحجر إلى ماس. هؤلاء الأشخاص أدوات تُصقل أرواحنا وتفتح أعيننا على أعماقنا.
ولا نخجل من ظهور بعض أخطائنا للعلن، فكل روح غالية وثمينة عند الله مهما تراكمت ذنوبها. والآخرون عليهم أن ينظروا بعين الرحمة، وألّا يستخفّوا أو يحتقروا أحدًا، بل أن يُعاملوا كل إنسان بصدق وتقدير.
وهكذا، تصبح رحلة معرفة النفس ليست مجرد بحث داخلي عن الحقيقة، بل فرصة للرحمة، والتسامح، والتقدير المتبادل، حتى نصبح أحرارًا وصادقين ومتوازنين في علاقتنا بأنفسنا وبالآخرين.