عثمان أبو الليرات.. عين القطيف التي لا تنطفئ
كانت الصحراءُ ملتهبةً، تلتهم بأنيابِ المجاعةِ مَن يقطنها، فلا تُبقي إلا أشلاءً للسباعِ والطيور. وعلى الضدّ من ذلك كانت القطيفُ وجارتُها الأحساءُ جنّةً وارفةً؛ تحجب أشجارُها لهيبَ الشمس، وتتفجّر عيونُها بالماءِ شوقًا إلى بساتينها. وبين نار الصحراء وجِنان القطيف سجالٌ أبديٌّ بين الجدب والخصب لم ينقطع. وكما قيّض اللهُ لهذه الأرضِ العلّامةَ المُقدَّس الشيخ فرج العمران، والأستاذ الأديب محمد سعيد المسلم، وقلةً قليلةً ليسطّروا تاريخَها، قيّض لها أيضًا الحاجَّ عثمانَ أبو الليرات؛ الذي التقطَ منذ نعومةِ أظفاره مشاهدَ اندثرت، فغدت صورُه شاهدًا على ما تحدّث عنه الأجداد، وعلى ما بقي رهينَ القلوب يهدّده النسيان.
لهذه الأرض تاريخٌ عريقٌ لا يجهله إلا مَن أعرض عن جذوره؛ فمنذ طرفةَ بنِ العبد شاعرِ الجاهلية الكبير، مرورًا بالمنذرِ بنِ ساوى رئيسِ عبدِ القيس الذي بايع النبيَّ صلّى الله عليه وآله عند وصول كتابه، وأبي البحرِ الخطي، ثم فقهائها العظام وفنانيها الأفذاذ، ودولٍ تعاقبت عليها، ظلّت القطيفُ غنيةً برجالها وآثارها. لكن هذا التاريخ ظلّ بحاجةٍ دائمًا إلى من يدوّن ملامحه ويحفظ صورته. وإذا كان القلمُ قد سجّل الكلمة، فإن الكاميرا جاءت لتُمسك باللحظة، وتُبقي على وجه الزمن حيًّا. وهنا برز فضلُ الحاجِّ عثمان أبو الليرات؛ فقد حمل كاميرتَه منفردًا، وصوّر آلافَ المشاهد التي تحوّلت إلى كنوزٍ ينبغي أن توضع في مكانها اللائق، لتكون شاهدًا على حقبةٍ لم يبقَ من معالمها إلا القليل. إن الناس يرحلون، لكن آثارهم تبقى؛ وهكذا ستبقى عدسةُ الحاج عثمان وأعمالُه التوثيقية خالدةً في ذاكرة القطيف، وراسخةً في سجلّ مبدعيها.
لقد تكرّر طلبُ الدعاءِ كثيرًا لأبو علي، وطلبُ الدعاءِ يُنبِئُ عادةً عن خطبٍ جلل. رفعتُ يدي بالدعاء، وصورٌ تتقاذفُ في ذهني لمريضٍ تلتهمه أنابيبُ المغذّي ووخزُ الإبر من كل جانب. كان - لا ريب - محاطًا بأسرته، كما أحاطت به قلوبُ القطيفيّين الذين شاركوا أسرته التضرّعَ والرجاءَ أن يعودَ أبو علي إلى بيته مُعافًى بين عائلته وذويه. هناك كانت خطوطُ النبض ترسم مشهدًا حزينًا، وهناك كانت الأعين مشدوهةً على رجلٍ لم يتكئ يومًا ولم يئنّ من حوادث الدنيا. إنه الأب الذي يعانق قيظ الدهر ونوائبَه ليحجب عن عائلته كلَّ ألمٍ وخوف. هناك استقامت تلك الخطوطُ، وهناك سكن الأنين، وهناك رحل عنّا أبو علي. رحل الجسدُ، وبقيت ابتسامته الهادئة تبعث السكينة في القلوب. رحل الجسد وبقيت عدستُه وصورُه وآثارُه شواهدَ خالدةً على ذاكرةِ القطيف وتاريخِها. إنا لله وإنا إليه راجعون.