الضجيج حول أوركسترا الأحزان
قبل أيام، احتفى الإعلام الإيراني بالعرض الموسيقي ”ناميرا“ للمايسترو نصير حيدريان، وفيه تستوحي فرقة أوركسترا طهران السيرة العاشورائية، وتجسد قيمها ومعانيها عبر أصوات الكورال، وإيقاع الأدوات الموسيقية، هذا الحدث ليس جديدا في المشهد الإيراني، فمنذ التسعينيات من القرن الماضي والأخبار تتحدث عن مقطوعات موسيقية، وعروض أوركسترائية بذات الروح والمضمون. في المقابل، أطلقت وزارة الثقافة العراقية مهرجانها الأول للأنشودة الحسينية على مسرح الرشيد بقيادة المايسترو العراقي علي الخصاف، وهي تطمع في تخليد قيم الثورة الحسينية عبر الفن وعبر الاستثمار في الإرث الثقافي المحلي في هذا الجانب، وهذه المحاولة بعد تقديمها واجهت موجة من التعليقات الساخطة في الوسط الشعبي والديني داخل العراق.
لم تعرف التجربة العراقية الحفاوة كما عرفت نظيرتها الإيرانية، فقد جوبهت باعتراضات كثيرة، وأصبحت حديث مواقع التواصل الإلكتروني، وحديث المنابر والخطب الدينية، وكان الخوف من تسلل الموسيقى والغناء إلى الحدث الحسيني هو الباعث على هذه الحملة المضادة بالدرجة الأولى، حيث التشديد على الامتعاض من استخدام أدوات الموسيقى المحرمة. جمعت التجربة العراقية قصائد معروفة من التراث الحسيني العراقي إلى جانب قصائد تاريخية، إلا أن ذلك لم يشفع لفريق العمل لنيل التقدير والإشادة وتجنب الانتقادات الدينية.
حداثة التجربة وارتباطها بحدث ديني ربما كانت في مقدمة الأسباب في تسخين جو المواجهة مع مبادرة وزارة الثقافة، فمع أن مواسم الإحياء الحسينية تغزلت مختلف أشكال الفنون الحديثة في فعالياتها، من المسرح إلى التشكيل والنحت وحتى الغناء الديني بصورته الشائعة، إلا أن المزاوجة بين الآلات والأصوات بقيت محطة إشكالية بسبب الموقف الديني المتردد في الانفتاح على قراءات جديدة لوظائف الموسيقي والغناء في الحياة عموما. يقترب المداحون والمنشدون الدينيون في عاشوراء كثيرا من أدوات ومفردات أهل الموسيقى والغناء، بل ومرات كثيرة إلى مناطقهم اللحنية ومعاجمهم اللغوية، إلا أنهم يهربون من أمام استحقاقات هذا الاغتراف والامتلاء، يفضلون التلصص على الدخول مباشرة في علاقة صريحة مع صناعة فنية مرذولة لارتباطها بعنوانين: التطريب والتناسب مع أجواء أهل الفسوق.
المتابع لما يقدم في مناسبات الحزن والفرح داخل المشهد الديني العراقي يمكنه أن يقبض على روح غنائية بامتياز، غنائية المفردة واللحن والأداء، فموجة اليوم مع سيد فاقد الموسوي، وعلي الدلفي مثلا، لا تشبه موجة الأمس مع وطن النجفي وحمزة الصغير، هي نفس الدموع والأحزان، لكن القوالب تغيرت، بمثل ما تغير المزاج مع شارع عريض من متديني الدمعة الحسينية.. لم يمنع التأفف والحوقلة والامتعاض من تمدد هذه الموجة ودخولها ذروة الشور بما فيها من إيقاعات صوتية وجسدية تقترب من أفعال الدروشة الصوفية، كانت الأصوات الحسينية الجديدة بمثابة الدليل على ولادة جيل جديد له أحلام القبض على حداثة الحياة والإمساك بمفردات الدين، فأحالوا القصيدة الحسينية إلى غزل، واللطم الحسيني إلى جوقات إيقاعية، والمشهد بكله إلى لحظة بصرية مهندسة.
كثيرا ما توقف المشاركون في مواسم الحزن الكربلائي عند رادود وقصيدة وتساءلوا بصوت عال: أليست هذه أغنية؟.. كان هذا السؤال هو الإشارة الصريحة على تضاءل المسافة بين الاثنين، بين غناء منذور للحزن والفرح الدينيين، وغناء منذور لكل عناوين الحياة، بين غناء تطرب له الأذن في كلتا الحالتين، فتخرج الأول من سوية الراحة إلى ذروة الحزن، وتخرج الثاني من مكابدات الوجد إلى نشوة الاشتياق، هذه المسافة التي لا تقاس بأدوات الإفتاء، بل بأدوات الوعي بمظاهر الحياة، وقبل ذلك بأسس الصناعة الفنية.
والحال أن العراقي يرى في الحسين بطلا قوميا، وفي عاشوراء إرثا شعبيا هائلا، ولهذا اقترب منه أهل الفن والثقافة قديما وحديثا، وحاولوا تقديم تصوراتهم عن واقعة الطف وأبطالها، وليس آخرهم أهل الموسيقى، الذين تشربوا روح الحزن الكربلائي في ألحانهم منذ الأزل، وبات إيقاع الأغنية العراقية مشاكلا لإيقاع الأرض وناسها وذاكرتها، وبدلا من حصار مهرجان الأنشودة والسعي لتعطيل مسيرته لينفتح أهل الأغنية الدينية على التجربة، وجلهم من الشباب، ويستفيدوا من الثقافة الموسيقية التي تمثل ميدانهم المشترك.