مكاسب آنية أمام خسارة كبرى
عندما عُرض فيلم الكريسماس الشهير Home Alone [1] قبل أكثر من ثلاثين عامًا، ذلك الفيلم الذي جسّد مغامرات الطفل المشاكس في مواجهة اللصّين الماكرين، دارت بينهم معارك طاحنة اتسمت بالدهاء والعبث. ورغم أن الطفل استطاع أن يكسب جولات عديدة، إلا أن أحد اللصوص قال في نهاية المطاف عبارة لافتة ذات طابع حكمّي:
”You win the battles but you lose the war“، أي: لقد ربحت المعارك، لكنك خسرت الحرب.
عبارة تختزل المفارقة بين الانتصارات الصغيرة والهزيمة الكبرى، وتفتح باب التأمل في معنى النصر الحقيقي، بما يُذكّرنا بقولٍ منسوبٍ لأمير المؤمنين «للباطل جولة وللحق دولة» [2] ، حيث تتجلّى المفارقة بين الغلبة المؤقتة والانتصار المستدام.
ومن شاشة السينما إلى شاشة الحياة هذه المرة، أستحضر موقفًا من تجاربي الشخصية. والدي الحاج عبدالوهاب البوصالح رحمه الله، كان تاجر أقمشة، وقد أسند إليّ ذات يوم من أيام مراهقتي مهمة البيع في المحل. فكان أن قمتُ ببيع أحد طاقات الأقمشة التي كان قد سعّرها بمئة ريال، بسعر مضاعف بلغ مئتي ريال. وكم كانت الفرحة تغمرني، متخيّلًا كيف سأستعرض عليه مهارتي وشطارتي في البيع. لكنه، رحمه الله، ما إن علم بالأمر حتى وبّخني، وقال لي: ”بغضّ النظر عن الحكم الشرعي في مسألة الربح الزائد على المسلم، فإن فعلتك هذه تجرّ الويلات على سمعة المحل. الزبون حين يشعر أنه خُدع بسعرٍ زائد، سيترك ذلك أثرًا في نفسه، بل وفي نفوس من حوله، من عائلته وأصدقائه. وبالتالي، ربما تكون قد كسبت من هذا وذاك شيئًا من الربح الزائد بالشطارة و«الفهلوة» هذه المرة، لكنك أنت الخاسر الأكبر في النهاية.“
إن فكرة والدي، رحمه الله، تتماشى تمامًا مع تلك العبارة الحكيمة التي قيلت في خضم فيلم كوميدي، لتؤكد أن النصر الحقيقي لا يُقاس بما يُحصّل من مكاسب آنية، بل بما يُبنى من ثقة وسمعة على المدى البعيد. وهذا المعنى ذاته نجده متجذرًا في كلمات الإمام علي حين قال «كم من أكلة منعت أكلات» [3] ، وهي عبارة موجزة تحمل في طياتها تحذيرًا وإرشادًا في آنٍ واحد، وتُفهم بحسب السياق الذي تُقرأ فيه والنفس التي تتلقاها.
من جهة، يمكن أن تُفهم الكلمة ضمن سياق تحذيري، إذ تشير إلى أن التهام ما لا يُحمد عقباه، سواء من حيث الكمية أو النوع أو التوقيت، قد يؤدي إلى خسارة أكبر. كم من أكلة واحدة أفسدت على صاحبها صحته، أو سبّبت له مرضًا، أو حرمت عليه لذائذ كثيرة بعدها. كأن الإمام يقول: لا تنخدع بلذة لحظية، فتخسر لذّات مستمرة. من يأكل طعامًا دسمًا في وقت غير مناسب، يُصاب بعسر هضم يمنعه من الأكل أيامًا، ومن يتناول شيئًا محرّمًا شرعًا، يُحرم من بركة الطعام الحلال. إنها دعوة إلى أن تكون اللذة مدروسة لا متهورة، وتحذير من الاندفاع اللحظي ومن الشهوانية غير المنضبطة.
ومن جهة أخرى، يمكن أن تُفهم الكلمة ضمن سياق إرشادي، إذ ترشد إلى ضبط النفس والتخطيط الغذائي أو السلوكي. فإذا ضبط الإنسان نفسه عن أكلة واحدة، فقد يفتح لنفسه بابًا لأكلات كثيرة لاحقًا. كأن الإمام يُرشد إلى الزهد الذكي، لا الحرمان القاسي. من يمتنع عن أكل ضار في لحظة ضعف، يُحافظ على صحته، ويستمتع لاحقًا بأطعمة كثيرة، ومن يلتزم بنظام غذائي، يُحرم من بعض الأكلات، لكنه يُكافأ بجسم سليم يُتيح له خيارات أوسع. وهكذا، تقول الرواية بلغة موجزة: لا تكن عبدًا للّقمة، بل سيّدًا لها. فكم من لذة صغيرة أفسدت لذائذ عظيمة، وكم من امتناع حكيم فتح أبوابًا من النعيم.
ولئن قيلت هذه الكلمة الحكيمة لأمير المؤمنين في سياق الطعام، فإنني أجد فيها ما يتجاوز ذلك إلى دعوة للتأمل في طبيعة المكاسب والانتصارات، وفي كيفية إدارة اللذة والربح والخسارة بعينٍ استراتيجية لا شهوانية.
بل أكثر من ذلك، حين نتدبّر في الآية الكريمة ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [4] .
أو في قول الإمام علي «يا ابن آدم إذا رأيت ربك سبحانه يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره» [5] .
في خطورة الاغترار والانجرار وراء المكاسب الزائفة، تكمن الهزيمة الحقيقية التي لا تُرى إلا بعد فوات الأوان.
ليس كل ما يُحصّل مكسبًا، ولا كل ما يُفقد خسارة؛ فالمعيار الحقيقي هو الأثر الباقي والمعنى المتولّد، المكاسب سراب إن لم تُثمر أثرًا، والخسائر حكمة إن أنبتت وعيًا.
فالمعارك الصغيرة لا تصنع المصير، بل المسار الطويل الذي نبنيه بثبات.
قد تُفرحنا المكاسب السريعة، لكنها قد تُفقدنا ما هو أثمن: راحة الضمير، وثقة الناس، ورضا الله الذي هو غاية الغايات.