هل فقدنا القدرة على الحركة والانتظار؟
مشاهد باتت مألوفة في البيت والعمل وكل أماكن الحضور اليومي، يدان تقبضان على الجوال وعينان متسمرتان لشاشته الصغيرة. مرات لا تُحصى يسقط الجوال على صدور مدمني الشاشات أو ينام في أحضانهم. صوت قرع رسائل الدردشة بات مفزعًا، أصابع وعقول مبرمجة بفعل التكرار والعادة، تعيد التصفح مع كل رنة.
كل الساحات والأماكن، المقدس منها والدنيوي، مباحة للأجهزة الذكية حضورًا وتفاعلًا. وبات بفعل اللحظة المشتهاة خارج سياقات الزمن المحسوس. يتقاسم رغيف الخبز طاولة الطعام وتفاصيل اليوم ومهامه. وبفعل معاجزُه التي قرّبت المسافات واختصرت الإجراءات والروتين، صار صديقًا محبوبًا وأنيسًا مقربًا، يبهج، ويشرح، ويربي، ويتسوق، ويتكلم، يسرق، ويعلي قدر قوم ويستخف بآخرين. له القدرة على الجلب والتسخير، لا تُحصى أفعاله، ويفعل بالليل ما يفعله بالنهار.
لقد حوّل الحياة التي تُطوى بين المدن وتُقاس المسافات بينها بالكيليومتر إلى مستطيل بحجم سنتيمترات، تسكنه كل المجمعات التجارية والدوائر الحكومية والبنوك، ويقيم على ضفافه المئات من المقربين والجيران.
فتحول الوجود الخارجي الواسع، الذي يتطلب السعي والحركة، إلى وجود افتراضي مترامي الأبعاد، يمكن الولوج إليه بحركة الأصابع ورمش العين.
فتلاشى بذلك جزء من طرفي الحركة، وانحسر الذهاب وبقي المجيء «لم نعد نذهب لنشتري، بل كل شيء يأتي إلينا».
ابتلع الجوال وجودات كثيفة كانت تملأ الرفوف والطاولات والغرف كالأوراق والأقلام وملفات الحفظ والأختام وماكينات النسخ وأرقام الانتظار. ماتت الطوابير الطويلة، واختفى مشهد زحام مواقف السيارات وعشرات يجدون الخطى نحو نوافذ نصف مفتوحة.
فأعاد صياغة معادلة سرعة الإنجاز المرتبطة بأماكن العمل والخدمة، وربطها بحركة أصابع اليدين. مع أني لا أدري إن كان لعلوم الهندسة والحساب قدرة لبناء معادلة تقيس حجم الوجود الافتراضي بالنسبة للوجود الخارجي. ولكني أدرك أن ثمة للإنسان وجودات افتراضية ونفسية وأخرى قد تأتي في قادم الأيام على شكل هالة وأثير. كلها ليست قائمة بنفسها أو مستقلّة عن وجوده الحقيقي، بل متصلة به اتصال الشمس بالأرض والفكرة بصاحبها.
كما أنه أعاد رسم مشاهد التكدس وتجمع الجماهير، فهو يلملم شتات مليوني من مختلف الجنسيات والأعراق والديانات في ”ترند“ واحد دون تدافع أو إغماء أو الحاجة لتنظيم مروري. حضور كبير وواسع، ويُقاس وجوده بالأرقام ومن غير حيز. فيمكن لعشرات الملايين أن يشاهدوا حادثًا ما من غير أن يتسببوا في تعطيل الحركة وسد الطرق، أو يستخدموا الأبواق تعبيرًا عن انزعاجهم وغضبهم.
ومع ما لكل الأجهزة الذكية وتطبيقاتها من الفوائد، إلا أنها أفقدتنا القدرة على الانتظار والحركة، فمع كل ساعة تصفح، وانتقال بين برامج التواصل الاجتماعي، تضمحل فرص الحركة وتقل الخطوات، فهي دائمًا تغرينا بالكسل.
ويزداد معها القلق لأنه توأم السرعة والعجلة، ويفترسنا الشعور بالخواء النفسي والملل بسبب الرتابة.
فهي الملهاة التي تعزلنا عن المحيط، حتى وإن تلامست الأكتاف وتلاصقت الأجساد. ملهاة تطوف بنا في أروقة لا نهاية لها، ونوافذ تُطل على أخرى.
حتى أن المرأة التي تمتلك كل أجهزة الإنذار المبكر، وحواس استشعار الخطر تجاه أولادها، أفقدتها الملهاة شعورها العميق، وعطلت جودة الإحساس. فخروجها من الشاشات والمستطيل الصغير بات نادرًا وقليلًا، لا يكفي حاجة البيت، والأولاد والزوج. لذا بادرت لجلب جميع الأولاد إلى الملهاة، يدفعها لذلك حسن النية، وصعوبة الانتقال بين عالمين.
تمتلئ جنباته بكل شيء عن كل شيء، لكن لا يمكن تمييز الصادق من الكاذب إلا للمختص والحاذق والخبير. فقد يكون بذلك من مصادر الدجل والاحتيال والشبهة، والفوضى.