آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:17 ص

‎الحب المرهون.. كيف صارت الفاتورة شرطاً للزواج

سامي آل مرزوق *

لم يعد الزواج كما عرفناه يومًا، تلك الخطوة العفوية التي تبدأ بابتسامة صادقة ورغبة مشتركة في بناء بيت صغير، مهما كان ضيقًا أو متواضعًا، لقد تغيرت الموازين وانقلبت المفاهيم حتى صار الشاب المقبل على الزواج يقف حائرًا أمام قائمة طويلة من المطالب التي لا تنتهي، وفتاة تنظر إلى الزواج بوصفه تذكرة دخول إلى عالم الرفاهية، لا رحلة كفاح تُبنى على مهل. كانت بيوت آبائنا مليئة بالصبر والتضامن، وإن ضاقت غرفها أو اشترك فيها أكثر من أخ وأخت، لكن الدفء كان يملأ زواياها، أما اليوم فإن بيتًا بأربع غرف ودورتي مياه قد لا يكفي لِيُرضي فتاة نشأت على صور ”اللايف ستايل“ في حسابات المشاهير.

‎الشاب الذي بالكاد بدأ أول وظيفة، وعاد ليلًا مرهقًا براتب لا يتجاوز حاجاته، يُطلب منه أن يكون مستعدًا بهدية أو رحلة لعروسه، وشنطة وردية ماركة الأحلام، وسيارة جديدة تليق بزوجة المستقبل، والأدهى أن الأم أحيانًا تكون عونًا لابنتها على هذه الطلبات، والأب يشترط أن يكون الزوج مريشًا، فلا ينظرون إلى أخلاقه أو استقامته، بل إلى قدرته على مجاراة سباق المظاهر.

‎لقد كان الزواج فيما مضى امتحانًا للصبر بعد أن يبدأ، واليوم صار امتحانًا للمال قبل أن يولد، وبين هذين المشهدين تبدو المفارقة صارخة، آباء عاشوا ببساطة واستطاعوا أن يربوا أجيالًا، وأبناء اليوم يُحاصرون بضغوط مادية ونفسية قد تحرمهم من تأسيس أسرهم أصلًا.

‎قصص الواقع تُظهر الصورة بجلاء، أحد الشباب حدثني بمرارة أنه حين تقدم لخطبة فتاة، لم يسأله أحد عن طموحه ولا عن صدقه، بل كان أول سؤال: ما نوع سيارتك؟ وحين أجاب بأنها سيارة مستعملة دفع أقساطها من راتبه الأول، غادر المجلس وهو يشعر أن الطريق أمامه أطول من أن يُقطع. وفي المقابل فتاة أخرى كانت مقتنعة بزواج بسيط لكنها تلقت من صديقاتها عشرات الصور على واتساب لحفلات زفاف أسطورية، وهدايا من ماركات عالمية، حتى أصبحت تشعر أن قبولها بالقليل انتقاص من قيمتها، فارتفع سقف توقعاتها بلا وعي.

‎في إحصاءات الهيئة العامة للإحصاء بالمملكة، نشرتها عدة مواقع وعدد من الصحف المحلية ومنها جريدة عكاظ يوم الأحد 9 أغسطس 2020 م، في تقرير عن اليوم العالمي للشباب 2020، أن أكثر من 65% من الشباب ما بين 15 و 34 عامًا لم يتزوجوا بعد، وأن نسبة غير المتزوجين بين الذكور تصل إلى 37.7%، بينما بين الإناث تصل إلى 56.8%. هذه ليست مجرد أرقام جافة، بل جرس إنذار، أجيال كاملة تؤجل الزواج أو تعزف عنه، ليس كرهًا في تكوين أسرة، بل لأن الشروط تجاوزت حدود القدرة.

‎ولم تتوقف الأزمة عند الخطبة فقط، بعض التقارير المحلية تشير إلى أن جزءًا كبيرًا من حالات الطلاق في السنوات الأولى سببه التوقعات غير الواقعية التي روجتها السوشيال ميديا، فتاة تدخل بيتها منتظرة أن تستمر الهدايا والرحلات كما رأت على الشاشة، فتصدم بواقع مختلف، فينهار التفاهم، وشاب يدخل البيت مثقلًا بديون تكاليف ما قبل الزواج، فيعيش أسير الضغوط، فتتعكر العلاقة منذ البداية. لكن الصورة ليست كلها قاتمة، هناك فتيات رفضن أن يكن أسيرات للمظاهر، وآثرن أن يبدأن مع أزواجهن حياة بسيطة، ليبنوا معًا مستقبلًا أكبر. وهناك شباب لم يستسلموا لضغط المجتمع، وأصروا على الزواج رغم قلة ذات اليد، فوجدوا من يشاركهم الإيمان بأن السعادة لا تُشترى بالماركات، بل تُبنى بالحب والتفاهم. تلك نماذج قليلة لكنها مضيئة تؤكد أن الحل لا يزال ممكنًا، إذا امتلكنا الشجاعة لمراجعة أنفسنا.

‎الزواج ليس قصرًا نعلقه على حسابات إنستغرام، ولا سيارة فارهة تتصدر موكبًا في ليلة عابرة، الزواج بيت صغير قد يبدأ بغرفة، لكنه يتسع بالحب، ويتزين بالضحكات، ويقوى بالصبر. المال بلا شك مهم، لكنه لا يصنع وحدة أسرة، ولا يضمن سعادة. كم من غني عاش في تعاسة لأنه لم يجدْ من يفهم قلبه، وكم من فقير عاش في رضا لأنه وجد من يشاركه دربه.

‎علينا أن نعيد ترتيب أولوياتنا، أن نُربي بناتنا على أن القيمة في الرجل ليست في رصيده بل في أخلاقه، وأن نُهيئ شبابنا ليدركوا أن الفتاة ليست حقيبة أو فاتورة، بل شريكة حياة. المجتمع كله بحاجة إلى أن يُخفض صوته في سباق المظاهر، ويرفع صوته في تذكير الناس أن الزواج مشروع إنساني قبل أن يكون مشروعًا ماديًا.

‎إن لم نفعل، فسيبقى شبابنا يشيخون دون زواج، وفتياتنا يحلمن بفارس لا يأتي. لكن إن تحلينا بالشجاعة وواجهنا الحقيقة، فسنعود لنؤسس زيجات تشبه بيوتنا الأولى، متواضعة لكنها ممتلئة دفئًا. ويبقى السؤال معلقًا: هل نملك الشجاعة لنكسر صورة الزواج المزيف التي رسمتها الشاشات ونعود إلى زواج حقيقي بقلوب صافية وأحلام واقعية؟