آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:17 ص

الحاج علي المعلم.. قلب تاروت النابض بالمحبة وذاكرة الوفاء

عاطف بن علي الأسود *

في جزيرة تاروت العريقة، التي تزخر بتاريخٍ ضارب في الجذور، لا يمكن الحديث عن ترابط المجتمع وعراقة العوائل دون الوقوف عند شخصية فذّة كان لها أثر بالغ في النفوس، وعطاؤها الهادئ في خدمة الناس، ألا وهو الحاج علي مكي المعلم، رحمه الله.

في حي الديرة، أقدم أحياء الجزيرة، تشكلت ملامح مجتمع أصيل، اختلطت فيه رائحة البحر بصوت الأذان، وتداخلت جدران البيوت القديمة مع نداءات السوق وروائح الأفران. ومن هذا القلب النابض بالحياة، برزت عائلة المعلم كإحدى ركائز ذلك المجتمع، وكان الحاج علي المعلم، رحمه الله، أحد أبرز وجوهها، ممن جمعوا بين الأصالة والبساطة، والهيبة والتواضع.

مجلس الألفة والقصيدة

كنتُ في سنٍ مبكرة عندما كنتُ أجلس في مجلسه برفقة والدي، علي بن رضي الأسود، رحمه الله. كان والدي يُلقي بعض القصائد على مسامعه، بينما كان الحاج علي المعلم ينصت بابتسامة صافية، تنبع من قلب نقي وسريرة طاهرة.

ذلك المجلس لم يكن لقاءً عابرًا، بل كان لحظة راسخة في الذاكرة، تجسّد فيها عمق المحبة، ودفء العلاقة، وبساطة الروح التي ميّزت هذا الرجل الفاضل.

كان، رحمه الله، يؤمن أن الألفة والمحبة هما المبدأ الذي يجب أن يعيش عليه الناس، وكان يحرص دائمًا على أن تبقى القلوب متقاربة، والبيوت متواصلة، وأن تظل القيم عنوانًا للتعامل بين الناس مهما اختلفت ظروفهم.

نسيج اجتماعي مترابط

ما ميّز عائلة المعلم هو أن دورها لم يقتصر على البُعد العائلي، بل امتدّ إلى المجتمع بكامل أطيافه، حيث جمعتها روابط المحبة والمصاهرة والتقدير مع العديد من العوائل الكريمة في جزيرة تاروت، التي أسهمت معًا في بناء مجتمع متماسك، تحكمه القيم، ويقوده التعايش، وتظلله المحبة.

سيرة لا تُنسى

لم يكن الحاج علي المعلم رجل مجلس فقط، بل رجل مبدأ، يُشعرك بأنك تعرفه منذ زمن، حتى لو التقيته مرة واحدة.

كان بسيطًا في حديثه، كبيرًا في أثره، هادئًا في حضوره، عميقًا في بصيرته. لم يكن يحب الصخب، بل كان صوته يحمل حنانًا أبويًا خالصًا، وحكمته تسري في حديثه بتلقائية نادرة.

وكان يؤمن أن الناس لا تُقاس بمكانتها المادية، بل بقلوبها وسيرتها بين الناس. لذا، لم يكن غريبًا أن يحبه الصغير قبل الكبير، ويحتفي به أهل الحي كما يحتفي الأب بأبنائه.

نموذج حي للوفاء والترابط

من النماذج المشرّفة التي تجسّد عمق العلاقة بين عائلة المعلم وعائلة الأسود، يبرز مثال إنساني راقٍ تمثّل في الصداقة الطويلة والوفاء العميق بين:

• الأستاذ علي عبد الله مكي المعلم «أبو نافع»

• والأستاذ مساعد بن محمد رضي الأسود «أبو منير»، رحمه الله

لقد بدأت علاقتهما منذ الطفولة، وتوطدت خلال فترة الدراسة، واستمرت حتى بعد أن التحقا بسلك التعليم، حيث عمل أبو نافع مشرفًا تربويًا في إحدى المدارس الحكومية، بينما تولى أبو منير إدارة إحدى المدارس في مدينة رأس تنورة.

ورغم مشاغل الحياة، لم ينقطع التواصل بينهما، بل ازداد متانة. وبعد وفاة الأستاذ أبو منير، حافظ الأستاذ أبو نافع، وهو ابن شقيق الحاج علي المعلم، على علاقة وثيقة بأسرته، مستمرًا على درب الوفاء الذي غرسه جيل الرواد في نفوس هذه العائلة.

إن هذا النموذج الشريف، يعكس أحد وجوه الإرث الذي تركه الحاج علي المعلم، وهو ما يجعل الوفاء ليس مجرد خلق طيب، بل أساسًا متجذرًا في هذه الأسرة، توارثته الأجيال بكل وفاء واعتزاز.

استمرار النهج والقيم عبر الأجيال

رغم مرور الزمن، ما زالت عائلة المعلم، بأبنائها وأحفادها، تسير على النهج ذاته، حاملة مشعل القيم والمبادئ التي أرساها والدهم الحنون.

فهم يواصلون الحضور الإيجابي في المجتمع، ويحرصون على تعزيز الوحدة الوطنية، وتقوية الأواصر مع مختلف العوائل، مؤمنين بأن بناء الأوطان يبدأ من ترابط الأسرة، وصدق النوايا، وسمو الأخلاق.

العمل التجاري ودوره في نهضة المجتمع

إلى جانب حضوره الاجتماعي، كان الحاج علي المعلم أحد الوجوه النشطة في مجال العمل التجاري. أسس أعمالًا بسيطة لكنها كانت فاعلة في الاقتصاد المحلي، وعُرف عنه الصدق والنزاهة في المعاملات، مما أكسبه سمعة طيبة وثقة المجتمع.

ساهمت مشاريعه في دعم محيطه القريب، وكانت تعبيرًا صادقًا عن رؤيته بأن التجارة ليست فقط وسيلة للرزق، بل أيضًا أداة للتواصل والاحترام وخدمة الناس.

مولده ووفاته

وُلد الحاج علي مكي المعلم في مطلع القرن العشرين «عام 1336 هـ»، في زمنٍ كان فيه بناء الذات مسؤولية ثقيلة، فكان مثالًا للرجل الذي جمع بين الجد في العمل، والسمو في الخلق، والبصيرة في التعامل.

وقد رحل عن دنيانا في 29 جمادى الآخرة 1412 هـ، مخلفًا أثرًا لا يُنسى، وذكرى تفيض بالاحترام والمحبة والدعاء.

الختام

يبقى الحاج علي المعلم، رحمه الله، رمزًا خالدًا في ذاكرة تاروت، وسيرة حياة مشرفة تجمع بين النجاح العملي، والخلق الرفيع، والإنسانية العميقة.

وقد شاء الله أن يترك لنا من خلاله نموذجًا فذًا لرجلٍ لا يُقاس بحجم حضوره، بل بعمق أثره، وصفاء قلبه، وما غرسه في الناس من حب ووفاء.

رحم الله الحاج علي المعلم، وأسكنه فسيح جناته، وبارك في ذريته، وجعل هذا الإرث القيمي زادًا مباركًا يُحتذى به. ‎


دراسات عليا اقتصاد صحي