آخر تحديث: 26 / 8 / 2025م - 11:56 م

جدلية الأنا والآخر… بين مرآة الذات وأفق الاختلاف

الدكتورة عرفات المرزوق *

منذ أن وعى الإنسان ذاته، تردّد في داخله السؤال الأزلي: من أنا؟ ومن هو الآخر؟ سؤال يفتح على فضاءٍ رحبٍ من الفكر، ويكشف عن صراعٍ خفيٍّ بين ذاتٍ تبحث عن حضورها، وآخرٍ يقف في مواجهة وجودها.

الأنا ليست مجرد ضمير لغوي أو لفظة نحوية؛ بل هي هوية متدفقة، ملامحها القيم والمبادئ، وملابسها الوعي والتجربة. غير أنها لا تكتمل في عزلتها، بل تحتاج إلى الآخر لتتجلّى. وكما قال الفيلسوف مارتن بوبر: ”الإنسان لا يصبح أنا إلا بوجود أنت“. فالأنا لا تُعرِّف نفسها إلا حين تواجه المختلف عنها، لأن الآخر مرآتها التي تكشف ما غاب عنها من معانٍ.

في الأدب العربي، طالما كان حضور الآخر رفيقًا لرحلة الأنا. يقول المتنبي:

إذا غامرتَ في شرفٍ مرومٍ

فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ

هنا تتضح الأنا الطامحة، المتطلعة إلى المجد، غير أنّها لا تُدرك ذاتها إلا في مقارنةٍ بالآخرين، لتسمو فوقهم أو تتمايز عنهم. وهكذا يتحوّل الآخر إلى مقياسٍ يختبر به الإنسان مدى صدق ذاته وعلوّ طموحه.

لكن العلاقة بين الأنا والآخر ليست دومًا صفاءً وانسجامًا؛ فقد تتحول إلى خصومة، حين يتشبث كل طرف بمرآته الضيقة. وفي هذا المعنى قال الشاعر الصوفي ابن عربي:

أدينُ بدينِ الحبِّ أنّى توجَّهتْ

ركائبُهُ، فالحبُّ ديني وإيماني

ففي هذا البيت العميق نجد رؤية تتجاوز صراع الأنا والآخر، إلى فضاءٍ أرحب، حيث يتحول الاختلاف إلى تجلٍّ للمحبة، ويصبح التنوّع طريقًا نحو التعارف لا نحو التناحر.

إنّ هذه الجدلية تكشف لنا أن الأنا لا تُبنى في فراغ، بل في مواجهة الآخر. فحين يُقصى الآخر، تذبل الذات في وحشتها، وحين يُمحى الأنا، يذوب الفرد في جموعٍ لا ملامح لها. التوازن هو السر: أن نعيش ذواتنا بصدق، ونمنح الآخر حقه في أن يكون مختلفًا.

وهكذا يبقى الأديب والشاعر والفيلسوف على السواء يطرقون باب هذه الجدلية، لأنها لبّ التجربة الإنسانية. فالأنا بلا آخر صدى باهت، والآخر بلا أنا ظلٌّ هائم وحده الحوار يمدّ بينهما جسور المعنى، ويحوّل الصراع إلى تكامل والاختلاف إلى ثراء.